الثلاثاء، 6 مارس 2012

المسيري ...والموقف من الحداثة البعدية

المسيري ...والموقف من الحداثة البعدية

فهد الشقيران
6 يوليو 2008


(عبد الوهاب المسيري)


أظن أن رحيل عبد الوهاب المسيري سيفتح المجال للحديث عن إنتاجه الذي لم يتوقف منذ نصف قرن، مشروعه الضخم الذي شيده في موسوعته عن اليهودية والصهيونية قد سحر العرب، وشحذ قرائحهم لتسطير أعلى آيات الثناء (انظر مثلاً بحوث ودراسات عن عبد الوهاب المسيري جمعت في مجلدين من إصدرارات دار الشروق) فقد طغى على البحوث طابع الثناء والتبجيل الإنشائي. غير أن ما يهمني هو إنتاج المسيري المتصل بالفلسفة، فهو "هيغلي" الجذر، ومن جهة أخرى فهو يصنف نفسه على أنه سليل مدرسة فرانكفورت ولا عجب ففكرة "التشييء" ونقد "العقل الأداتي" كلها أفكار فرانكفورتية، طرحت لدى جورج لوكاتش ويورغن هابرماس.

 رأى المسيري أنه عبّر عن "نهاية التاريخ" قبل فرانسيس فوكوياما مع اختلافهما في النتائج فالأول ليبرالي أمريكي النزعة، والثاني يساري عربي النزعة، الحسّ القومي حكَم كتبه الأساسية، مع أن فوكوياما والمسيري يعبّان من النبع "الهيغلي" الواسع، غير أن فوكوياما رأى أن نهاية التاريخ تتمثّل بـ(نهاية الأيديولوجيات وتسيّد الإمبراطورية الأمريكية، والفكرة الرأسمالية للعالم) بينما قرأ المسيري في الصهيونية والنازية تجليات نهاية التاريخ (انظر كتابه الصهيونية، والنازية، ونهاية التاريخ). لقد كان يمنّي نفسه أن يطرح نظرية تشبه نظرية "هيغل" غير أن التحوّلات التي واجهها كانت ثقيلة لدرجة جعلتْه ينظم في آخر حياته إلى تجمّع "كفاية" الذي لا يتوافق مع فكر المسيري وحيويته، بل قام الإسلاميون باستثمار كتابه "العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة" لضرب العلمانية، فتم تدجين نتاجه، خاصة بعد تحولات في موقف المسيري من "المادية" ومن "الفكر الإسلامي".

 

 

من التأسيسات التي قام بها المسيري، تأسيس حسّ أكاديمي بدأ ينشط في الفترة الأخيرة، يقوم بربط النتاج اليهودي بالحضارة الغربية من أجل رسم مسار تحذيري من مستجداتها، وهذا هو السبب الرئيسي في هجوم المسيري على "جاك دريدا" شخصياً وذلك في مواضع من موسوعته عن اليهودية والصهيونية، وقد تلقّف بعض نقاد ما بعد الحداثة تلك التعليمة، فتم وصف دريدا بـ"الحاخام المنزلق"، فهو يقرأ مرحلة ما بعد الحداثة على أنها تجسّد "النهاية" فهو-على حد وصف أحمد البنكي- (يقرأ المشروع الحضاري الغربي بوصفه نموذجاً يأخذ شكل متتالية، تتحقق في الزمان، تأخذ شكل حلقاتٍ تتبع الواحدة الأخرى ويمكن تلخصيها فيما يلي: نقطة بداية يواجه فيها الإنسان الكون دون وسائط معلناً أنه سيد الكون ومركزه وأنه مرجعية ذاته، تتحول هذه المركزية من الذات الإنسانية العامة إلى الذات الفردية الإمبريالية التي تستبعد الآخرين، يصبح إنساناً عنصرياً وتظهر ثنائية الأنا والآخر).

بصدد هجوم المسيري على "التفكيك" فهو يرفض ترجمة المصطلح: Deconstruction إلى "التفكيك" ويقترح ترجمته بـ"الانزلاقية" من هنا يدخل على الربط بين التفكيك وما بعد الحداثة يستمر البنكي في دراسته كاتباً: (ففكر ما بعد الحداثة-وفق المسيري- فكر تقويضي معاد للعقلانية، وللكليات، سواء كانت دينية، أم مادية، والقسمة بينهما كالقسمة بين النظرية والتطبيق عنده، الرؤية الفلسفية هي "ما بعد الحداثة" أما التفكيكية فهي "منهجها" في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الكامن) (انظر دراسة البنكي للمسيري ضمن كتاب جاك دريدا عربياً 281) فهو يتربّص بما بعد الحداثة، وينمذج على نظرياته بأحداث متوزعة، تبدأ بمقولات لجاك دريدا وتنتهي باستشهادات تضم حتى سلوكيات "مادونا"! (انظر كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة في مجلدين ضمن مطبوعات دار الشروق).

يمكن أن يتّضح أكثر رأي المسيري في ما بعد الحداثة في النصّ الآتي: (ولد مشروع ما بعد الحداثة على سرير المرض، وصحّ نعت مولود ما بعد الحداثة بأنه حالة من التعددية المفرطة التي يتساوى فيها المقدس بالمدنس، والمطلق بالنسبي، وأما النسبية فصارت هي القانون الذي تغيب عنه كل مفاهيم المرجعية والمعيارية، واهتزّت اللغة وفسدت كأداة للتواصل بين البشر، وراحت الدوالّ تتراقص دون نطق، بعد أن اختفى المركز ولم يعد هناك نواة تنطلق منها المعاني أو تتمحور حولها) (انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية المجلد الخامس ص 415).

في ذلك النص الذي يشبه الموعظة الحسنة التي توجّه إلى العالم بغية كشف نقائص ما بعد الحداثة، يبيّن كم أن المسيري لم يكن يفصل ما بعد الحداثة عن قضاياه السياسية، فهو يرجع ما بعد الحداثة إلى كونها المشروع الصهيوني الكامن، متناسياً أن الفلاسفة لا يعبّرون عن آرائهم وفق تعليمات تأتيهم من الساسة فهم يفكّرون بشكلٍ مستقلّ، وإذا كان المسيري يأخذ على دريدا ولاءه لجذوره اليهودية، فإن المسيري نفسه لم ينفكّ عن الإلحاح على ضرورة ولاء الإنسان لجذوره، ونعرف أن فلاسفة ما بعد الحداثة لم يكن لديهم موقف واحد إزاء موضوع "فلسطين" نذكر هنا خلاف جيل دلوز مع ميشيل فوكو حيث عتب دلوز على فوكو انحيازه التام لإسرائيل بينما لم يكن دلوز ضد الفلسطينيين بل كان مع إنشاء دولتين تعيشان بأمان جنباً إلى جنب، كما أن بعض نقاد ما بعد الحداثة لم يكونوا إيجابيين مع القضية الفلسطينية، وأستدل هنا بموقف يورغن هابرماس المناهض "لتمرّد الفلسطينيين"!

بالنسبة لي أعتبر عبد الوهاب المسيري "الأستاذ اللدود" الذي تقرأ له وتنهل من معينه، وتتلمذ على تراجمه وآرائه، ثم تختلف معه، فهو بحّاثة، وماكينا بحث عربية هامة، مات وهو يتحوّل باستمرار بما يعبّر عن "الصدق" الذي يحمله، و يبحث باستمرار بما يعبّر عن "عشق العلم" الذي يسكنه، ولعمري فهي خصال كادت أن تندثر في عصر الشهادات والنفاق العلمي، والكتابي.  

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية