الأحد، 4 مارس 2012

"المالنخوليا" وآلام الفلاسفة

"المالنخوليا" وآلام الفلاسفة

25 يوليو 2008

فهد الشقيران

 

(عبد الرحمن بدوي)

"المالنخوليا" هي (المزاج السوداوي، الملال، اليأس) ومن أجمل كتابات الفيلسوف الدانماركي "كيركجارد" إشباعه لهذه الحالة بالتشخيص والوصف، خاصةً في كتابه الشهير (إما..أو) حيث احتوى على أوصاف متنوعة لحالة الملال واليأس، وكل تفريعات "المالنخوليا" التي تصيب المفكّر بمزاج أسود لا يمكن الفكاك منه، يصف كيركجارد (الملال) بأنه مرض أصيب به الإنسان منذ البداية، (دخل الملال العالم منذ البداية، وازداد بقدر ازدياد عدد السكان، كان آدم في ملال وحده، ثم أصاب الملال آدم وحواء معاً، ثم أصاب الملال آدم وحواء وهابيل وقابيل كأسرة، ثم ازداد عدد سكان العالم فأصبح المجموع في حالة ملال بالجملة كجماعة) يعلق عبد الرحمن بدوي على هذا النص كاتباً: (الحياة الحسّية القائمة على الاستمتاع الخالص بالملذات، وكذلك حياة التفكير المحض، كلتاهما تؤدي إلى الملال والضجر).

بالنسبة للملال الفلسفي يختلف عن الملال السطحي الساذج والتافه أن يمل الإنسان من شيء محسوس أو من شخص مباشر، فهذا ملال سطحي يصاب به أي قاصر وتافه، لكن الملال الفلسفي أعمق من هذا، إنه الشعور بفراغ متوزع وعميق ومستحكم لا قرار له، حينما تفقد الحياة معناها وبرهانها، وهو النوع الذي يؤدي بالمفكر إلى الارتداد على ذاته، فيقبع في الغالب في عزلةٍ حادّة عنيفة، يستمع داخلها إلى كل أصوات العالم، أصوات النمل الزاحف، والدبابيس المتناثرة وقطرات الماء من الصنبور، تتحول الحياة إلى فيلم مرعب تنكشف معه مناطق فراغها، ورعبها، وتفاهتها، وهو النوع الفلسفي الذي ربما يوصف بـ"القلق الغامض"، أو الأرق، ويتمدد ليصل إلى الكوابيس المزعجة، أو الغضب الدائم والشعور المستمر بالاستفزاز، وترسخ الذاتية لدرجة احتقار كل البشر مهما علت قيمتهم عند المجتمع أو في ذواتهم.  

إنها المالنخوليا، وهي بتعبير أدق، ملل من الاستمرار العبثي على ظهر الأرض، وقرف من المشاهد الحياتية الروتينية، حينما يطغى إدراك معايب الأفراد والحياة على إيجاد معنىً ملموس لكل هذا الكدح القبيح، الفرد المصاب المالنخوليا إن سئل عن الذي يضجره، فهو يميل إلى جوابٍ مرعب "لست أدري، لا يمكنني تفسير هذا"! إنها كما يصفها الفيلسوف العربي عبد الرحمن بدوي (وعكة روحية، أو هستيريا روحية، تجابه الإنسان بهاوية الفراغ، والخلوّ من المعنى، وتكشف عن القلق والانفصام في وجوده، لكن الفرد المعرض لأحوال الملال المالنخوليا غالباً ما يرفض قبول حالته، ولهذا يسعى لإخفائها بألوان من النشاط الملهي المتنوع) أو بحسب تعبير مارتن هيدغر (يغْرق في الهُم) بمعنى أنه يغرق في اليوميات والأشياء السخيفة إلتهاءً ليهرب من خلالها عن المقلقات والمزعجات الوجودية، أو الذهنية والفكرية، والنفسية معاً، وقد رأى باسكال أن تلك الملهيات (وقتية). وهي فعلاً طريقة تشبه (الدوران) ويصف كيركجارد هذا الدوران بقوله: (إن الإنسان يمل من حياة الريف فينتقل إلى القرية، ثم يمل العيش في وطنه فيسافر إلى الخارج، ثم يمل العيش في الغربة فيداعبه إمكان السفر المستمر لتخفيف ملاله).

المالنخوليا أصيب بأعراضها الكثير من الفلاسفة، فانتحر بعضهم مثل جيل دلوز، أو حاول الانتحار مثل كارل ماركس ، وبعضهم تعاطى المخدرات مثل رولان بارت والبعض استمرّ في العبّ من ملذات الحياة حتى مات بأمراض جنسية مثل ميشيل فوكو والبعض الآخر وصل به القلق والأسى إلى الجنون الأليم مثل نيتشه وبعضهم أصيب بداء الكلب مثل كانط وبعضهم مرض بهلوسات نفسية مثل أوغست كونت، إنه الشعور العميق الداخلي بفراغ، أن تصل إلى حالةٍ من إدراك العالم، أن تنظر إلى العالم بزاويا تختلف عن الزوايا التي توارثها الناس، أن تنظر إلى العالم من نقطة الضعف، وتضربه بأسئلتك من نقطة الارتكاز، ثم لا تجد أي جواب.

 

(محمد الماغوط)

 

المالنخوليا –كحالة- تبرز بوضوح في "الألم" بلا سبب، وتبدّل المزاج بشكلٍ مرعب، أظن أن بعض المثقفين والفلاسفة والشعراء العرب أصيبوا بهذا، لكنني شبه متيقّن من اثنين، الأول: عبد الرحمن بدوي فقد كان دائم العبوس، وعلى قلقٍ كأن الريح تحته، وهو في استنفار مستمرّ، وسريع الغضب، ومتألم من كل شيء ولا يأبه لأي شيء، ولديه فردانية طاغية لدرجةٍ جعلتْه لا يعترف بأحد.

الثاني: هو الشاعر محمد الماغوط ونصوصه مثل: "منْ أقابله في الصباح، أشتهي قتْله في المساء" "مستقبلي الوحيد هو قبري، وجمهوري الوحيد هو ظلي" ، "مالفرق بين أن يموت الإنسان على رأس حمله، أو يموت وهو يتبرّز متثائباً في إحدى الخرائب"، " "إنني مثل السجين الذي ظل يحفر عشرين عاماً ثم اكتشف أن الحفرة التي حفرها تقوده إلى زنزانةٍ أخرى" "سأظل مع القضايا الخاسرة حتى الموت" ، "إن كل صراخ أدباء العالم ومفكريه عن الحزن والألم والعذاب، لا تساويه أغنية حزينة تؤديها بغيّ وحيدة في الشارع" ، "إذا متّ شخوا على قبري" أو النص الذي يقول فيه: "أقسى مافي الوجود، أن لا يكون هناك ما تنتظره، أو تتذكره، أو تحلم به" وكتب عن الحزن "أيها الحزن، ياسيفي الطويل المجعّد .. الرصيف الحاملُ طفله الأشقر، يسأل عن وردةٍ أو أسير، عن سفينة وغيمة من الوطن.. والكلمات الحرة تكتسحني كالطاعون.. لا امرأة لي ولا عقيدة" ، "من أين ينبع هذا الألم؟ هذه الطعنات المشتعلة كنيران الأعراس".

إنه النموذج للشاعر المتفلسف المتألم والمتوجع واليائس والحزين للغاية، فهو عندي فيلسوف الشعر الحزين، إقرأه وهو يكتب: "أيها الله، أربع قارات جريحة بين نهديّ، كنت أفكّر بأنني سأكتسح العالم بعينيّ الزرقاوين، ونظراتي الشاعرية" إنها ذروة اليأس، لقد أدمن الكحول في آخر حياته وكان يدخّن أربع علب سجائر يومياً. إنه الألم المطبق، لقد كتب كيركجارد عبارة جميلة عن الألم: (الألم هو أعلى درجات الذاتية، وفيه نرى أكمل تعبير عن الباطنية Inwardnees) وفي مكانٍ آخر (الألم هو تعبير عن علاقة باطنية مع الله) أما عند اسبينوزا فـ"الألم تعبير عن تناقص القدرة على التشبث بالوجود" وعند باكاريا فإن :"الألم مصهرة الحقيقة".  

 

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية