الأحد، 4 مارس 2012

أمراض الجهل ... ونمو غدد الإنشاء

أمراض الجهل ... ونمو غدد الإنشاء
جريدة الحياة 6 فبراير 2012
فهد سليمان الشقيران




مع غليان التقنية، وتحوّل المعلومة إلى منتجٍ متوفرٍ ومطروح، ومع سهولة العثور على الكتاب أياً كان الكتاب، مع كل ما مضى تحوّلت علاقة الكثيرين بالمعلومة. توفرها وسهولة العثور عليها أثمر عن شعورٍ بالاستغناء عن المعلومة لصالح التعبير والإنشاء. بعض نسّاك المعرفة يصرّون على البحث عن المعلومة من مصدرها بالكتاب، مستغنين عن الوسائل التي تفقدهم لذّة العثور عليها، وهذا نموذج بحثي "كلاسيكي" عتيق، يمنحه متعة البحث بدلاً من الارتهان إلى المواقع البحثية.
طغى التعبير على التفكير، وسحقت المواقع المؤسسة للتواصل الاجتماعي قيمة المطالعة، أصبحت حالة الإدمان الدائمة للمواقع التواصلية محفزّا لنمو "غدد الإنشاء" الفتاكة التي تحيل الجميع إلى منظّرين من دون أن يكون التنظير مؤسساً على معنىً علمي، ولا تسأل عن الأدعياء الذين يطرحون أنفسهم كمنقذين وعباقرة متسترين بالجهل الفضيع، حتى وصلنا إلى حالة تشبه "تتفيه المعرفة"، يمتطون التخصصات الدقيقة في الفلسفة والفكر من دون أن يكون لهم أي إسهام علمي يمكننا مناقشتهم ونقدهم عليه.
ثم إن غدد الإنشاء التي نمّتها ثورات التقنية قللت من قيمة المعنى واختفى النص على حساب "الكلام". وحالة التمادح المتبادلة بين الأصدقاء تعزز من وهم المعرفة التي لا تغطّيها كل الظلمات لشدة سطوع الجهل من أروقة الجهل الكئيبة، بعض أماكن التعبير تحمي المنشئ للكلام من الامتحانات المعرفية التي تكشف عن دمامل الجهل بمشارط السؤال والنقد.
إذا كان النفري يقول:"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" فإن المعرفة كلما اتسعت كلما رأى الإنسان مساحاتٍ من الجهل التي لابد له من سقاية تصحّرها بالمعرفة والقراءة والتفكير. الذين يعلمون يدركون تماماً المساحات الجدباء التي يجب أن تتعاهد، بينما الذين اقتنعوا بمحصّلتهم المعرفية-كما يتوهّمون- تراهم مستلقين على آرائكهم ينثرون فجاجاتٍ من الكلام الإنشائي الممل والمليء بالأخطاء الفادحة، من خلطٍ بين المصطلحات، وتشتيت للمفاهيم، وعدم فهمٍ لأسس وبدهيات المجال الذي يتحدثون فيه.
من بين أبرز نتائج تفشي الجموع المصابة بغدد الإنشاء تفشي السرقات الفكرية، وامتطاء التخصصات لمآرب ذاتية مع جهلٍ بالمعنى والمنهج، وانتشار التجهيل المنظّم المحروس بوهم المعرفة الذي يتغذّى بدوره على حالة "التمادح" المثيرة للشفقة، وهذه من أكبر الفضاعات التي ترتكب لتمزيق قيم العلم والمعرفة من أفرادٍ جهّال، دخلوا على المجالات الفكرية والأدبية والفلسفية أو حتى الشعرية لمصالح ذاتية، أو بحثاً عن موجةٍ ملائمةٍ يضارعها ليصل إلى مبتغاه الساذج من خلال الادعاءات المعرفية. كنا نغضب من الكتب التي تخلط بين "إيمانويل كانط و أوغست كونت" وبين الشاعر "أرغون، والمفكر أركون" لكن الآن وبعد موجة الجهل استبيحت التخصصات من أناسٍ لا يعرفون قواعد الإملاء!
يمكن لأمراض الجهل أن تعالج بأمصال المعرفة والاستزادة وبعض "الحياء العلمي"! فالمعرفة تزيد الإنسان تواضعاً، وعلي حرب يستخدم جملة:"التقوى المعرفية" حينها نكون متأملين أكثر في استخدامنا للمصطلحات والمفاهيم وفي دخولنا للمجالات أياً كانت.
ثمة موجة ادعاء وسرقة وامتطاء بما ينبئ عن وصول الممسوسين بالجهل المركب إلى ساحات المعرفة حائرين، يظنّون أن الزعق بفناء المعرفة هو التفكير، ولمّا يعلموا أن الكثير من التأمل والقراءة والتفكير والقليل من الإنشاء والتعبير هو ما يمنح الإنسان قيمته الوجودية حتى لا يكون مصدر ضرر على نفسه وغيره، فالجاهل لا يبلغ كل الأعداء منه كما يبلغ هو من نفسه كما في البيت العربي الشهير.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية