الإنسان الخائف
الإنسان الخائف
فهد الشقيران
12 مارس 2009
(أرسطو)
يولد الإنسان وهو يصرخ، يخفّ الصراخ مع احتضان الأم له، ثم يسري بعدها الخوف في جسد الإنسان ليصبح هو المحرك الرئيسي للخبرات، يغدو الخوف الحافز الأبرز للإنسان من أجل تتميم مراسم "الأمن"، والإنسان الأول حينما هرب إلى الكهف هو وأولاده كان يريد هزيمة "الخوف"، فهو في كونٍ متشابه، لم يخضع بعد للأنسنة، لذا كان العالم كله "غابة" وقد أسس هذا الشكل الطبيعي لخوف مريع سيكون في مراحل وحقب تالية من أكبر الهواجس التي تلازم الإنسان على كل أحواله، فيبحث في كثير من تصرفاته اليومية عن "تحقيق الأمن الذاتي" وذلك عبر أكثر من وسيلة، منها الوسائل العسكرية، والنفسية، أو الاجتماعية. وحينما أحرق الإنسان الغابة، ووقف على جذع الشجرة خطيباً، وهو يضرب بيديه على صدره معلناً هزيمته لكل الكائنات المفترسة وغير المفترسة منذ أن سنّ أول رمح، وأطلق العنان لأولاده في الغابة، يصطادون مما يشاؤون من الأنعام والحيوانات، ويشوونها على نارٍ هادئة في ظلمة الليل، منذ تلك المرحلة الذهبية، والإنسان يظنّ أنه "هزم الخوف" ثم يأتيه الخوف من كل باب.
إنسان المدنية، لم يختلف كثيراً عن إنسان الغابة، وفي بحثٍ إجرائي قمتُ به لغرض تدوين لموضوع مندرج في هذا المحور رأيت أن "إنسان الغابة" هو الذي كشف عبر سلوكه معاني الخوف، فدبّ الخوف في فلسفاتٍ كثيرة، وأهمها الفلسفات ذات الطابع العسكري والسياسي، والفلاسفة حينما تنازعوا على إيجاد وصف يفرّق بين الإنسان والحيوان، قال بعضهم بأن الإنسان حيوان "ناطق" وبعضهم رأى أنه حيوان له تاريخ..الخ، من التوصيفات، لكن أرسطو رأى أن الإنسان "كائن سياسي"، وإنسان الغابة يجسّد لبداية السياسة، فالإنسان في معركته مع كل حيوانات الغابة لم يكن يركض ببلاهة كما تركض الحيوانات السريعة، ولم يكن يفترس بأسنانه كما تفترس بقية الحيوانات، بل كان يختفي فوق الشجرة أو خلفها، حتى يأتي الحيوان بسرعته الجنونية غير آبهٍ بمكان الإنسان، ثم يطلق الإنسان رمحه وهو في مكانه الآمن، من هنا تأسس مفهوم "الأمن" من رحم "تجارب الخوف".
(مارتن هيدغر)
من هنا أيضاً وجدت مفاهيم سياسية وعسكرية حديثة مستخلصة من إنسان الغابة، من ذلك مثلاً "الضربات الاستباقية" وهي الاستراتيجية التي حرّكت الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق، وهو مفهوم سياسي وجد لدى إنسان الغابة، حينما قرر حماية كهفه من كل المفترسات بما فيها المفترسات الزاحفة، وإلى اليوم والإنسان يسير على قاعدة أساسية لم تتغير منذ إنسان الكهف، وهي "الخوف" من أجل "الأمن"، أخذ الخوف أبعاده في كل مناطق الحياة، فالطفل في نومه يشاهد مشاهد موحشة فيصحو فجأة ليضم أشياءه أو ذويه، والإنسان يخاف حينما يشاهد فجأة لفافة سوداء، في عتمة الليل، حتى ولو كان داخل ثكنة عسكرية محكمة، ذلك أن الغابة انقرضت فعلياً لكنها بقيت وترعرعت داخل الإنسان، إلى أن جاء التأسيس المخيف الذي تضمنتْه فلسفة توماس هوبز الذي أعلن عن "ذئبية الإنسان" حينما أطلق عبارته الشهيرة، "لقد أصبح الإنسان ذئباً على أخيه الإنسان" وهي الجملة التي أصبحت مثار حديث طويل خلال القرن الحالي بالذات، مع دخول هذه النظرية إلى مختبرات رسم الاستراتيجيات في مراكز القرارات الدولية في العالم.
اختفت الغابة، وأصبح الإنسان يعيش في مدينته الفارهة، بجواره الخدمات الضرورية والكمالية، تحرسه الحكومة بأجهزتها المحْكمة، وتقوم المؤسسات الأمنية بحمايته، وغابت كل المخاوف التي كان إنسان الغابة يخشاها، لكن "الأمن الذاتي" لم يتحقق، وفي البحث الإجرائي البصري الذي قمتُ به بغية تدوين كلامٍ أوسع حول هذا الهاجس، وجدتُ العديد من المضامين الذاتية التي شحنت بالخوف، لذا لم يحقق الأمن المدني خوف الإنسان من "المجهول" ولعل اختفاء الوحوش الكبيرة التي كانت تهدد إنسان الغابة لا يعني "تحقق الأمن" إذ ظهرت مناطق خوف أخرى، لا تقلّ رعباً عن "الخوف" الرئيسي الذي كان يلازم إنسان الكهف، حيث ظهر الخوف من (المرض، الموت، الفقر، الحرب)..الخ، من الهواجس التي لم تنقرض مع تحوّل الحياة إلى حياةٍ سهلة.
لقد أصبح "الخوف" هو البعد الكامن وراء كل هذه التصرفات التي يمارسها الإنسان في يومياته، منها مثلاً فكرة "السكنى" حيث يصبح الإنسان في بيته، مع عائلته، بعيداً عن الضوضاء والعالم، منذ أن قرر الإنسان الذكر ممارسة "ربط، أو ارتباطٍ" مع الأنثى ومن ثم استضافتها في الكهف، وإنجاب الأبناء منها، فالزواج في بعده الحضاري هو "تحقيق للسكنى" وابتعاد عن مناطق الذعر، صحيح أن الأنثى في بدايتها كانت مجرد حاوية للأبناء تقوم على حمايتهم بينما الذكر في عراكٍ مع حيوانات الغابة، لكن الأنثى الحالية تقوم بأدوار مشتركة مع الرجل، لم يعد تحقيق "الأمن الذاتي" بإمكان الإنسان، بل بإمكانه أن يشعر للحظات أو لساعات بحجم الأمن، بعضهم يبحث عنه في "الحب"، ألم يعرّف البعض الحب بأنه هزيمة مبكرة للموت، وفعلاً فالحب أحياناً يكون هو "مصل" مؤقت للخوف، رغم أن الحب ينتج الخوف من "انتهاء الحب" أو الخوف من "الخيانة"، وفي رأيي فإن كل شعور جميل يحمل في جوفه بذور انتهائه، وأعنف البذور التي يختزنها "الحب" إمكان "الموت"، وإذا كان الإنسان –حسب مارتن هيدغر- "وجد، ليموت" فإن كل الخوف -مهما تعددت تمظهراته التفسيرية- هو خوف من الموت، والذعر والرعب، والقلق، والخوف، والاكتئاب، كلها تأتي من مكانٍ بعيد، تأتي من بئرٍ خاوية، كلها تعبّر عن ضيفٍ ثقيل، قريب، أو بعيد، إنها رائحة من "روائح الموت".
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية