"كوخ هيدغر"
"كوخ هيدغر"
21 فبراير 2009
فهد الشقيران
(كوخ هيدغر)
تتميز أدوات التفلسف الجديد بأنها أدوات "اختراق" تستطيع أن تضع فيروسها في أشد الكتل النظرية صلابةً وتستطيع كشف وتفتيت أشدّ الخرافات النظرية أو الفلسفية أو العلمية التي أُخذت على أنها حقائق منذ عصور قديمة، تلك هي ميزة الفلسفة الجديدة؛ فلسفة ما بعد الشعارات، وما بعد الأكاذيب. لم تعد الفلسفة مفصولة عن تاريخها، كما لم تعد ترفاً تأملياً ونظرياً، لقد اندمجت في الحياة والتاريخ. تحولت لتصبح هي الأحاديث، وفعل الفلاح، وأنماط العيش، وأسلوب التعلق بالحياة، شقّت طرقها المختلفة وتعددت أنماط اشتغالها، لم تعد تشتغل فقط داخل الكلمات، لقد تحررت لتصبح موجودة حتى داخل الثقوب، ومتمركزة في البياض بين سواد الكلمات، كما تحوّل الفيلسوف الحاذق إلى ناشر فضائح ومحرّض ضد الراكد والساكن، ومكاشف لكل مسكوتٍ عنه. ويمكن رصد ملامح خروج الفلسفة على أنماط التفلسف القديم عبر النماذج التالية:
-صعوبة التفلسف بالأسلوب القديم: دخل تاريخ الفلسفة على خطّ التفلسف نفسه، لذا كتب جيل دلوز: (إن تاريخ الفلسفة ليس نظاماً تأملياً بوجه خاص إنه بالأحرى، مثل فن "البورتريت" في الفن التشكيلي، إنها بوريتريتات ذهنية مجردة ومثلما في الفن التشكيلي، علينا أن ننجز مماثلاً وشبيهاً بوسائل ليست متشابهة، بل مختلفة). كما أن عهد التفلسف القديم لم يعد فاعلاً في العصر الحديث. يستمر جيل دلوز نفسه وهو الفيلسوف المدرك لثغرات التفلسف العتيق، يستمر كاتباً: (نحن نقترب من الوقت الذي سوف يكون فيه من المستحيل علينا أن نكتب كتاباً فلسفياً بالطريقة نفسها التي كتبت بها الكتب الفلسفية السابقة)، وبالفعل فإننا نجد أن النظريات الفلسفية الكبرى تضاءلت، لندخل عصر التفلسف بوسائل أخرى غير "النظريات" حيث نتجه إلى وسائل التفلسف عبر "الطريقة"، أو عبر "الأسلوب" أو عبر، "الحوار" تلك هي الطرق التي تجلت عبرها الفلسفة خلال القرن الفائت.
(هيدغر في الجبل)
-كل تفكير يتضمن دوافع غريزية ذاتية: منذ طرح نيتشه الكاشف للمحركات الذاتية بوصفها دافع التفكير الأول ومسار التفلسف لم يبتعد كثيراً عن الحياة بل إن نيتشه نفسه صُنّف على أنه من فلاسفة الحياة، وساهم مشروع نيتشه الضخم في تحريك الفلسفة إلى مسار آخر، ليصبح إنتاج نيتشه هذا –حسب يورغن هابرماس- هو "منعطف" الفلسفة الرئيسي، وهو المنعطف الذي لم تنجح الفلسفة حتى الآن بتجاوزه، فكل الفلسفات التي جاءت بعد نيتشه سارت ضمن المنعطف الذي حفره نيتشه مهما كان موقف تلك الفلسفات من نيتشه نفسه، حيث دخلت النيتشوية في السينما والقانون والرياضة والفن والرقص والعري والجنس والطب والأحلام والدين والطبخ والصحة ليؤثر على مسارات متعددة ألم تكن فلسفته ثورية تنطلق من مبدأ تصحيح الحياة، وتصحيح أخطاء قاتلة ارتكبت منذ العصور القديمة؟ ورغم كل تأثير نيتشه فإن أشد أفكاره تأثيراً فكرته التي يلخصها بالآتي: (إن إرادة بقاء الذات هي الدافع لكل الأفكار والأفعال والإرادة خلافاً لما يعتقد شبنهاور ليست عمياء بل إن لها غايات متعددة)، لم يعد التفكير نصيحة أو موعظة، إنه حسب ميشيل فوكو "شيرة للذات" وكل تفكير إنما يعبر عن سيرة صاحبه الذاتية.
-ضد التنظير: ثمة سلوك كتابي قطعه بعض الفلاسفة وساهم في التأثير، وهو سلوك يعتمد على "الاقتصاد في التنظير" هذا رغم أن الناس يظنون أن الفلاسفة يكثرون من التنظير، والصحيح هو العكس، ذلك أن الفلاسفة في حقيقتهم هم "نُقّاد" وكل الفلسفات الكبيرة جاءت على هيئة نقد، خاصةً في الفلسفة الحديثة ابتداء من ديكارت ومروراً بكانظ وهيغل وشبنهاور ونيتشه وهيدغر وفوكو ودلوز، والنقد يأتي ليكشف صلابة زائفة، أو مستنقع مخرّث، أما التنظير فهو من نصيب وسائل تكرير الثرثرة وعلى رأسها الصحف والوسائل الإعلامية، وهذا ما جعل التفلسف يرتبط غالباً بالعزلة والوحدة، فالوحدة أعم من العزلة بإمكانك أن تكون منعزلاً في المدينة لكن الوحدة مرتبطة بالوحدة داخل المحيط إنها تتحقق في الغابة أو الجبل خارج المدينة، لذا لجأ بعض الفلاسفة إلى الطبيعة، وقد رصدتُ مجموعة من الفلاسفة الذين لجأوا إلى الجبال والوديان والأنهار والأكواخ للتفكير والتأمل، سأكتفي هنا بنموذج الفيلسوف الشهير مارتن هيدغر وهو من أكثر الفلاسفة تأثيراً وأشدّهم صعوبةً ودقة وأكثرهم عيشاً لفلسفته، ونموذج هيدغر في الوحدة يمكن أن ألخصه في الفقرة التالية.
(مارتن هيدغر)
-كوخ هيدغر: كره هيدغر بؤس الناس والعالم والمدينة، فاتجه إلى "الكوخ" (الموجود في الصورة)، حيث سكن على ارتفاع 1150 متراً في بيت ريفي صغير (6 على 7 أمتار) يغطي سقفه الواطئ ثلاث غرف: المطبخ، وغرفة النوم، وغرفة للكتب والكتابة. وبينما كان في وحدته وعزلته جاءه خطاب من جامعة (فرايبورغ) طالباً منه أن يصبح للمرة الثانية أستاذاً فيها، فكتب نصاً هو غاية في الشعر والجمال بعنوان (وحدها الغابة السوداء تلهمني) (ترجمه: حسونه المصباحي، ضمن كتاب "متاهات" طبعتْه دار المعرفة للنشر 2005 وهي ترجمة مميزة.
جاء في ذلك النص رفضه للتقليد الفلسفي العتيق، اقرأه وهو يكتب: (العمل الفلسفي، لا يتم بعيداً كما لو أنه فريد من نوعه إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين عندما يجرّ المزارع الشاب المزلاج الثقيل، المحمّل بحطب أشجار الزان، على طول المنحدر الوعر والخطر باتجاه ضيعته فإن هذا العمل يكون من نفس الصنف)، كما يشرح ملله من الأكاديميين وباعة الهراء والكلام الفارغ والثرثرة التعيسة حينما يكتب: (أجلس مع الفلاحين على مقعدٍ أمام المدفأة أو حول طاولة، هناك في الركن، وفي أغلب الأحيان لا أتحدث معهم وهم لا يتحدثون أيضاً، فقط ندخن الغليون بصمت، ومن حين إلى حين تسقط منا كلمة لنقول مثلاً إن قطع الخشب في الغابة يقترب من نهايته، وأن السمور في الليلة الماضية داهم قنّ الدجاج وأتلف الكثير منه، وأنه من المحتمل أن تلد البقرة!)
ويكتب هائماً بالغابة وشتائها الفصيح: (في ليل الشتاء تنفجر عاصفة لجية حول البيت وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذٍ يبدأ زمن الفلسفة)، يصبّ هايدغر جامّ غضبه على المدنية متعاطفاً مع الفلاحين:(في المدن، يمكننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، وهذا هو الطريق المؤكد للسقوط بسرعة في هاوية النسيان). إن هيدغر يبثّ من كوخه أبعاد الألم والعدم الأصلي اللذان ينصعان كالذهب النادر اللامع من الصعب أن تعثر على كثافة فلسفية داخل نصّ شعري كما تعثر عليه في نص هيدغر هذا، يكتب عن غربته ووحدته عن التافهين:(في السنة الماضية، كنت قد قضيت أسابيع بأكملها لوحدي في البييت صعدتْ تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاماً المنحدر الوعر من أجل مقابلتي، وقالت أنها تودّ التحقق من أنني لا زلت موجوداً ومن أن اللصوص لم يأتوا لسرقة بيتي في غفلةٍ مني وقد أمضتْ ليلة موتها في نقاشٍ مع أفراد عائلتها وقبل نصف ساعة من رحيلها إلى العالم الآخر كلفتهم بإبلاغ تحياتها إلى "الأستاذ" إن ذاكرة كهذه في رأيي أكثر قيمة من أي "روبرتاج" حتى ولو كان جيداً في أي صحيفة مشهورة في العالم حول فلسفتي المزعومة!).
-أكتب ما مضى لأننا مللنا من صخب الزيف، وطقطقة الأسنان وفحيح البلاعيم ومللنا من التكاذب الجماعي والخداع الثقافي العربي الكئيب. مللنا من الهراء القديم والتفاهات المستحكمة، ذلك أن المشكلة ليست في الواقع كما يتصور صغار الإصلاحيين وإنما في الهدف من الواقع، هذا هو السبب الذي قاد هيدغر إلى الكوخ، أن تبحث عن مكانٍ آخر غير عالم التزييف والبرطمة والتهريج. أكتب هذه الخلاصات لأسلي نفسي وكل من يمر بنفس مستوى التفكير الذي أمرّ به، لم تعد المسألة كتابات أكاديمية يتبارى بها صغار الأكاديميين ويتنافسون على ترقيات أو على أسماءٍ لامعة أو على طبع وإفراز كتيبات هزيلة مريضة لفظت قبل أن تتخلّق.
يجب أن نخلط الكتابة بآلامنا كما يكتب نيتشه، أن نعبر عن أحزاننا. بعض صعاليك الفلسفة ومتسدّحة التفكير يظنون أنني أنفاسهم أو أنني أنوي ضرب مشاريعهم أو أنني ألمزهم بنقدي. غير أن كل هذا غير صحيح، لأنني لا أجد في كتاباتهم ما يثير، لا يمكنها أن تشجعني حتى على لبس نظارتي والتفرغ لنقدها، إنها كتابات تافهة تشبه تعليمات استخدام خردة الكترونية، تأتي بلا روح وبلا أسلوب. كل ما أود قوله أن طريقة التفلسف القديمة انتهت، وانقرضت وتآكلت إلا من المدارس وأجهزة التكرير والتلقين والتحفيظ، لكن آليات التفلسف الحديثة لم تتحول بعد إلى أيقونة مؤثرة في فكرنا العربي، بينما عثر عليها باحث مميز هو عبد السلام بنعبد العالي في "الملاعب الأوربية، وفي المطابخ، وفي الفنون" ذلك هو الفرق بين باحث بحجم بنعبد العالي أو مطاع صفدي، وبين بعض خراتيت الكتابة ومتسولة الأفكار ورويبضات التفلسف وسدنة العته الفكري الفلسفي العربي.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية