الخميس، 1 مارس 2012

"النّكتة" بوصفها علامة ثقافية

"النّكتة" بوصفها علامة ثقافية
29 أكتوبر 2008
فهد الشقيران

(كيركغارد)

1-النكتة السعودية، حضور الاجتماعي:
في المجتمع السعودي تزدهر "النكتة"، والنكتة هي دائماً تعتمد على "الخبرة الاجتماعية" حيث تنفجر النكتة دائماً من مفارقات تحدثها "الثقافة" في كل مجتمعٍ من المجتمعات، في المجتمع السعودي تنشط "النكتة الاجتماعية" بالذات، تغلب على النكات السخرية المناطقية، بين منطقةٍ وأخرى، أو القبَليّة، أو الدينية بين تيارٍ وآخر.
النكتة في الغالب تنبت بلا مصدر من دون قائلٍ مباشر، تخرج من حسٍ اجتماعي، أو من حالة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وهي في الغالب حالات ضاغطة وحادّة يتنفّس المجتمع عبر النكتة ليخفف وطأة الكارثة، فلكل مرحلة نكاتها الخاصّة، فالنكتة تأتي بلا قائل، تصبح كاللقيط لا تجد من يتبناها، قد تتطور لتتشكّل عبر كاريكاتير، أو مشهد كوميدي، أو فصل مسرحي، لكنها تحتفظ بأصلها الاجتماعي، وبنطفتها الأساسية المتخلّقة من نكتة.


2-نظرة سريعة على الضحك فلسفياً:
النكتة تعود دائماً في الجانب الفلسفي، إلى "نظرية الضحك" وحينما نفتّش نجد أن الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشبنهور، وبرجسون، ونيتشه، وغيرهم لهم إسهامات في نظرية الضحك، ربما جاء الحديث عن نظرية الضحك عرضاً كما هو الحال لدى كانط في كتابه "نقد ملَكة الحُكم" أو حتى لدى أفلاطون، أو شبنهور، ومن قبلهم أرسطو، حيث تجيء كاستطراد داخل نظريات تتعلق بالجماليات، أما برجسون فقد دوّن كتابه (الضحك بحث في دلالة المضحك. ترجمة: سامي الدروبي، وعبد الله عبد الدايم) أما كيركجارد فقد دوّن أكثر من كتابة عن النكتة، مع أن عبد الفتاح إمام دوّن بحثاً بعنوان (مفهوم التهكم عند كيركجارد). شاكر عبد الحميد في كتابه (الفكاهة والضحك-رؤية جديدة) -وهو مرجعي في فلسفة الضحك هنا- يقول في فصل "فلاسفة الضحك": (هناك ارتباط ما بين الفلسفة العامة للفيلسوف وبين أفكاره الخاصة بعلم الجمال-الاستطيقا- وبين أفكاره المتعلقة بالضحك فالضحك وثيق الصلة بالإبداع والفن).
برونو يكتب أن ثمة رابطة بين البكاء والسرور حينما يكتب: (إن أشكال الضحك تأتي ممزوجة بدرجة ما من الحزن والبكاء، وأن كل بكاءٍ إنما يخفي خلفه درجة من المتعة والسرور)، وهذا يذكّرنا بالأسلوب الذي يجمع بين الجدية والسخرية لدى الكلبيين والرواقيين، في أسلوبهم الخطابي الجامع بين التهكّم والدلالة العميقة. فهم على عكس أفلاطون "الجاد" الذي درس الضحك على سبيل التحذير منه، فهوى رأى أن التهريج من السلوكيات التي يجب على النخبة الارتفاع عنه، ويكتب في هذا تحذيره الشهير من أن يكون المرء (عامياً أو مبتذلاً في سلوكه، أو أن يضحك في الشارع مثل السوقة، أو الدهماء، هكذا فإنه ينبغي على حرّاس الجمهورية أن يواجهوا كل اندفاعات العامة وأن يضبطوا سلوكهم). أما أرسطو فكالعادة يدعو هنا إلى "الاعتدال" في الضحك.


3-مفهوم "النكتة"، ونتاج اللعب العقلي بالأفكار:
"المتعة التي يحصل عليها المرء من النكتة لا تكون بعمق المتعة التي يحصل عليها من البهجة الناتجة عن الجمال أو الخير الأخلاقي" هكذا يكتب كانط فهو يرى أيضاً أن التسلية تلك ناتجة عن "اللعب العقلي بالأفكار"، (لقد أطلق "بيرجر" على نظرية كانط الخاصة بالضحك اسم نظرية "اللاشيء" حيث يحل "اللاشيء" في هذه النظرية محلّ ذلك الشيء الذي كان متوقعاً ومن إدراكنا للتناقض المفاجئ يحدث الضحك) (شاكر عبد الحميد).
شبنهور رأى أن الضحك "ينشأ نتيجة افتقار للتجانس أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل أو تمثيل معرفي، معين يقوم على أساس الإدراك، أي أن الضحك ببساطة هو محصّلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصوّر العقلي Concieved العام والمدرك الحسي Perceived الخاص"، "إن سبب الضحك هو ببساطة ذلك الإدراك المفاجئ للتناقض بين تصورٍ معين، وبين الموضوعات الواقعية المحددة التي تم الاعتقاد من قبل بوجود علاقة معينة بينها وبين هذا التصور، لكنها الآن علاقة أخرى غير متوقعة، والضحك نفسه هو مجرد التعبير عن هذا التناقض".

4-النكتة وأعباء الواقع المعيش:
المجتمع السعودي مجتمع "بكْر" جاهز للدراسات الاجتماعية، فهو مليء بالممارسات التي يمكن للباحث أن يتناولها بالدرس والتحليل، حيث يتمتع بالمفارقات والعادات الكثيرة، لكن التناول للأسف لم يتجاوز السطحية، فبين أكاديميين انشغلوا بالترّهات والتفاهات وسفاسف العلوم، وبين روائيين يتناولون بطولاتهم الفحولية، أو بطولاتهنّ الأنثويّة، لم نجد بعد أي أرقام اجتماعية أو كنز معلوماتي حقيقي، والعبء على مراكز الدراسات الجادة في الخليج والسعودية، أن تدرس هذه المجتمعات البكْر. خاصةً من خلال الثغرات المهملة، كالأمثال الشعبية، أو "النكات".
إن النكتة تعبّر عن اتجاهات في الرأي، عن اعتقادات عامة، عن أفكار محددة، عن تصورات للوجود، أو للكون، أو للدين، أو للآخر، وترتبط النكتة بالخبرة الاجتماعية، فربما أضحكتك نكتة، لا يضحك لها من عاش في مجتمعٍ آخر، وثمة نكات لها طابعها البشري الشامل بحيث تضحك كل البشر، وثمة نكات تحركها "الخبرات الاجتماعية" تعود إلى مدى تغلغل الإنسان في تفاصيل المجتمع. كما يمكن قياس اتجاه الرأي العام الاجتماعي من خلال "النكتة" فعلى سبيل المثال تنشط الآن النكات حول بعض رجال الدين الذين قاموا بإصدار فتاوى مضحكة أو سخيفة أو تنمّ عن العجز والإعاقة الذهنية والعلمية، يتناقلها الناس على الإيميلات ووسائل الاتصال، والنكتة هي سلاح اجتماعي، لذا يحذّر الآباء أبناءهم تربوياً (ابني لا تجعل من نفسك نكتة) فالنكتة هي الخنجر الاجتماعي المسلول ضد الهوامش الحدَثية، التي تلفت أنظارهم. سلطة الإعلام دخلت على الخط فاستطاعت أن تجعل من بعض الرموز التي قدّست لفترة من الزمن "مجرد نكتة".


5-الترفيه بالنكتة:
رأى كيركجارد أن التهكّم عامةً "يحرر من أعباء الواقع المعاش والواقع الامبريقي العملي، ولكن هذه الحرية تظل حرية من النوع السلبي نسبياً، لكن التهكّم له جانبه الإيجابي أيضاً الذي يقوم على أساس الاستمتاع والذي يتمثل في أن التهكم يوفر لصاحبه شكلاً من أشكال الاكتفاء بالذات أو نوعاً من الغلوّ بالثقة في النفس" وربما وُجدت الجدية الصارمة حيث يوجد التهكّم العميق وذلك حينما رأى شليجل أن "الفلسفة هي الموطن الحقيقي للتهكّم". وربما كان أكثر الناس تهكّماً أكثرهم إدراكاً لأبعاد الواقع، والسخرية بالفكرة تأخذ أحياناً أشنع أبعاد النقد، لذا تدخل السخرية كآلية في التفكير، لذا من السهل على المرء أن يكون جاداً في تفكيره، لكن من الصعب أن يستخدم وسائله الجادة في السخرية من فكرةٍ معارضة، لذا تصبح السخرية وسيلة حادّة ونافذة ومدمّرة حينما تستخدم في النقد لأنها تنطلق من قواعد جادّة لتهدم الأفكار المتهافتة الرّخوة.

6-الضحك النكتة التهكّم السخرية:
كل تلك العبارات تردادفت أو انزلقت أو دخلت أثناء الدخول إلى تخّوم معنى النكتة، أو البحث في سبب إنتاجها، أو سبب الإضحاك، وهي مواضيع متعددة، تقود إلى جوانب خلافية لا يمكن استدرارها كلها في خلاصة صحافية كهذه، لكن الإيضاح يأتي لإثبات كون النكتة، أو السخرية، أو التهكم، لا تأتي خارج اهتمام العلم، أو الفلسفة، وإنما هي من صميم البحوث الاجتماعية والفلسفية، حتى وإن كانت تلك المنتجات الشعبية هي (ملفوظات اجتماعية غير واعية) فإنها تعني وتدلّ على أبعاد متنوعة وعميقة، تخدم الباحث والمتابع، حيث يمكن رصد أي ظاهرة عبر هذا الشقّ الاجتماعي المهمل والمنسي، لتعرف أن كل تلك الجوانب الساخرة هي تعبيرات عن أفكار، أو حالات، أو أمراض، أو تحوّلات. كما هو الشأن في النكتة السعودية الغارقة في الشأن الاجتماعي والديني (الثقافي).



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية