المستقبل... للتغيير أم للخراب؟
المستقبل... للتغيير أم للخراب؟
صحيفة الحياة-الإثنين, 27 فبراير 2012
الأحداث الكبيرة تنتج تعابيرها ورموزها وعلاماتها؛ سواء كانت الأحداث سياسية كالحروب والثورات والاضطرابات، أو كانت موجةً مرتبطة بظرفٍ كوني كالعولمة، إذ ينتج الحدث ترسانة من الأدوات والمصطلحات، ومن المفاهيم المبتكرة التي ترتبط به. منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010 والأحداث العربية تضخّ كماً هائلاً من الكلمات التي تدوّر في وسائل الإعلام والصحافة، أو حتى في الأبحاث والكتب التي صدرت بعد الثورة، التي يغلب على أكثرها تجميع المقالات، أو تجديد كتبٍ مضت لتكون ضمن سياق الثورة، كما فعل أمين معلوف، أو توفيق المديني وغيرهما، وكل تلك العبارات أو الصور أو العلامات يمكن أن توضع ضمن سياق ضخامة الحدث الذي على إثره تشكلت آلياتٍ مختلفة للتعبير وتناول الأشياء، واكتسب الحدث قيمةً إعلامية مقارنة بالأحداث الأخرى التي انتهت ولم تعد مغريةً على المستوى الإعلامي، مثل ملفي «العراق» و«القاعدة»، وهما الملفان الأكثر إغراءً خلال العقد الأول من الألفية الحالية، بل منذ 2001 وحتى 2010.
ثم إن الأحداث العربية الحالية بكل سخونتها ودمويتها حُصّنت من النقد خلال الشهور الأربعة الأولى من تاريخ بدئها، إذ كانت قوائم العار تلاحق النقّاد الذين يتساءلون عن الجدوى من الحدث، لكنهم لا يعارضون التغيير، وهذا يحدث مع كل حدثٍ مشابه، حتى في أوروبا كان لليبراليين مواقفهم المتسائلة عن الأحداث، في كتابه «الفلسفة السياسية في القرنين «19 و20»، يكتب «غيوم سيبرتان»: «يتموقع الفكر الليبرالي بين الفكر الثوري والفكر المحافظ، وقد دافع المنظّرون الليبراليون عن الحرية الفكرية والتسامح الديني، ضد الأنظمة المستبدة وضد مبادئ توريث الامتيازات، التي يدافع عنها المحافظون، وتميز موقف الليبرالية من الثورة الفرنسية بالتأرجح، إذ تم دعمها في المرحلة الأولى، ونقدها بعد مرحلة الرعب». لم يكن الاعتراض الليبرالي آنذاك على التغيير، بل على مرحلة الرعب. وإذا عدنا إلى ترسانة المفردات والصيغ المتداولة لغوياً في هذه المرحلة سنعثر على عبارة «إتمام الثورة» نجد أنها ذهبتْ بليبيا إلى مستقبلٍ مظلم، كما أن ألسنة نيران العنف تشوي جسد مصر بين فينةٍ وأخرى، ومن هنا يكون التقويم والنظر أساس العمل الفكري للتعاطي مع أحداث كبرى مثل هذه، وأذكر بنصٍ مهم لعز الدين الخطابي حين نادى قائلاً: «الثورات التي عرفها الغرب الليبرالي منذ ثورة الأنوار، وأيضاً تلك التي عرفها الشرق الاشتراكي وبالتحديد في أوروبا الشرقية والصين لم تحقق الاستقلالية المأمولة والديموقراطية المنتظرة، فالحركات الاجتماعية التي حملتْ مشروع الثورة فشلت».
تلك الصورة الأوروبية تصف حال العرب الآن؛ إذ عاد الذين أججوا الاحتجاجات إلى بيوتهم لتعود القوى «الكهفية» الآتية زحفاً من الكهوف لتصل إلى منصات البرلمان، وليضعوا أقدامهم على مفاصل القرار، أما الواقع فقد تفجّرت أزماته؛ كانت الأمراض الاجتماعية الكبرى كامنةً، وحين بدأت مرحلة أخرى نزفت الصراعات القبلية، وقام غول الطائفية راكضاً يجوب شوارع المدن، وكأن الشعارات المرفوعة للوحدة بين الناس لم تكن إلا لغونةً لفظية وجعجعة صوتية.
المخيف في الأحداث الحالية انجرار المجتمعات نحو حروبٍ أهلية، في مجتمعاتٍ لم تتخلص من أدران التعصّب الجماعي، لتدخل حال الكينونة الفردية الذاتية، إذ تشتعل الشوارع بالحرب والتفجير، والحدث الليبي أبرز مثال. الباحثة الألمانية «حنة أرندت» بكتابها «في الثورة»، تقول: «إن الثورات والحروب لا يمكن تصورهما خارج ميدان العنف، إن العنف قاسم مشترك بينهما»، لا يمكن لأي ناقد أن يوقف زحف الحدث الكبير الحالي، لكن يجب على كل ناقد أن يتناول الحدث بسؤالٍ وبحثٍ ونقد، إن هذه المرحلة خارج سياق السيطرة، إنها تشبه المراحل الجارفة التي تندفع بما يسميه «غيوم سيبرتان» بـ «روح الزمن»، الذي يدور بنا طائشاً حينها يُتنازع الناس بين آلام الواقع وآمال الخيال.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية