الرائحة، رمزية التعبير اللحْمي.
الرائحة، رمزية التعبير اللحْمي.
فهد الشقيران
20 مايو 2008
1-
خبر موافقة باتريك زوسكيند على تحويل روايته "العطر-قصة قاتل"إلى فيلم سينمائي جاء لصالح السينما والرواية في آنٍ واحد، ومن المرجح أن الإغراءات المادية والضمانات الأدبية بالمحافظة على النص الأصلي جعلت الروائي يوافق على فيلم كلّف 63 مليون دولار. وفق الخلاصات التي نشرت عن الفيلم فإن الروائي كان ممتنعاً عن تسييل روايته سينمائياً منذ عام 1985، ولم يوافق على تسييلها حتى ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة جعلت من الرواية ضمن أشهر الروايات المتداولة في العالم، من أبرز ما يلفت حينما نقارن نص الرواية بأحداث الفيلم حرص المخرج توم تايكور الشديد من أجل الحفاظ على عمق الرواية داخل الفيلم، وهذا ما جعل الفيلم يبدو في بعض أحداثه خاصةً الخياليّ منها شديد التعقيد من جهة، والسطحية من جهة أخرى.
2-
حينما نصحني صديقي بمشاهدة الفيلم كنت أختم كتاب "أنثربولوجيا الجسد والحداثة" من تأليف: دافيد لوبرتون، والذي كتب في 252 صفحة عن "الجسد" وهو المجال الذي أخفقت الحداثة فعلياً في الحفاظ على عمقه اللحْمي من جهات كثيرة، جهات طبية، أو تشريحية، أو طقوسية، أو تكوينية، لذا جاء هذا المؤلف ليبحث في كتابه هذا عن هذا الإهمال الشنيع، فكتب في إحدى عشر فصلاً ما يبهر القارئ، فهو لا يهاجم الحداثة كلها على الطريقة التقليدية الرجعية، وإنما ينتقد الحداثة من داخلها، جرياً على المهنة العظيمة التي كرّسها نيتشه في انتقاده للتنوير بغية تنويره، وهو المشروع الذي وصفه مطاع صفدي بـ"تنوير المنير" أو "نقد النقد" وهو أحد أشكال التفكير المابعد حداثي، حينما تتم قراءة المهملات والفراغات، كالجسد والطب، والرائحة، والسجون، والمحو الجسدي، وغياب الجسد داخل ماكينا التحديث، والذين يجعلون الحداثة من الثوابت التي لا يمكن انتقادها إلا بعد اعتناقها "مُجْتمعياً" ثم تجاوزها، كما هو رأي هاشم صالح، إنما يمارسون أدوراً غير حداثية، بل يمارسون دوراً رجعياً مضاعفاً، كما هو شأن هجوم هاشم صالح على كتاب مطاع صفدي "نقد العقل الغربي" وهو أهم كتاب عربي يرصد حركة ما بعد الحداثة في أوربا وأميركا، الغريب أن هجومه يأتي بحجة الخوف على "الحداثة"! فهو خشي أن يستغل الأصولي هذا الكتاب لترويج نقد الحداثة، من أفواه فلاسفة ما بعد الحداثة.
3-
في مبحث صغير من كتاب "أنثربولوجيا الجسد والحداثة" يخصّ المؤلف "الروائح" بعشر صفحات هامة، جعلت من فيلم "العطر" يمرّ عليّ بطريقة مختلفة، لوبرتون يتحدث عن حميمية الرائحة بعمق حينما يكتب في مواضع مختلفة: "إن الشم هو بدون شك، الحاسة الأقل تغيراً والأقل قابلية للوصف من بين حواسنا، في نفس الوقت الذي يعدّ فيه حاضراً للغاية، ومؤثراً في العمق على سلوكنا. إن مجموعة من الروائح بلا روابط تحدد معالم الحياة اليومية، ولكن بطريقة طفيفة وسرية، إننا نعيش في فيض شمّي يفرش عالمنا الحسي. لقد توصلتْ هلن كيللر التي لم يكن لديها تحت تصرفها إلا حاستيْ اللمس والشم للتعرف على زوارها من خلال الرائحة الشخصيةالتي تتصاعد منهم. إن رائحة كل شخص هي توقيع. إن مرض فقدان القدرة على شم الروائح مرض مضني، ينزع من الوجود البشري جزءاً من متعته.إن الشم على الرغم من مكانته في الحياة الشخصية، يحاط اجتماعياً بالشك، ويخضع للكبت. في المجال الاجتماعي يبحث عن "الصمت" الشمي من خلال محاربة الروائح. إن العطر لا يكون قبولاً ولا يشكل لمسة حاسمة في لعبة الإغواء، إلا بشرط أن يستعمل عند حدّ المحو. إن الرائحة هي الجزء الرديء من الجزء الرديء في الإنسان المتمثل بلحمه، إن نفياً منهجياً يثابر إذن اجتماعياً على أن تنتزع من الروائح امتيازاتها في الميدان الاجتماعي".
4-
بين النص السالف وبعض أحداث الرواية التي بُعثت للحياة عبر "التمثيل السينمائي التجسيدي" الكثير من المشتركات، ففي الفيلم غرينولي يصاب بالفجيعة حينما يكتشف أخطر اكتشاف في حياته، وهو أنْ لا رائحة خاصة له، لذا وأثناء قيامه بأدوار القتل كان يمرّ بجوار الكلب من دون أن يتحرّك أنف الكلب ومن دون أن يحس به أحد، وهي الرؤية التي صدح بها لوبروتون حينما تحدث عن "البصمة، أو التوقيع" فالرائحة المنفية اجتماعياً هي معيار تحقق وجودي، فأن لا تَشم أو لا تُشم تعني ضمور الحس "الوجودي" للذات. لذا حرص غرينولي في الفيلم على إيجاد رائحة يأخذها من أجساد العذارى، ليمتلك بها العالم، ليصنع رائحة لم يسبق إليها على الإطلاق.سيغموند فرويد يقرن في كتابه "قلق في الحضارة" بين تراجع الشم ونمو الحضارة. يأتي الفيلم ليعيد البحث في "الجسد" كموضوع أنثربولوجي من الضروري الرجوع إليه باستمرار، فموضوع الجسد لم يغب عن الدراسات الحديثة منذ فترة طويلة، فهو بات الموضوع الأكثر إلحاحاً وصار ينتج نظرياته وتعقيداته.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية