الاثنين، 25 يونيو 2012

"تافهون" في عواصم الحضارات


"تافهون" في عواصم الحضارات
فهد الشقيران
جريدة الحياة ٢٥ يونيو ٢٠١٢


(غستون باشلار)
 

تُعلمنا الأسفار أن اكتشاف الأمكنة جزء من اكتشاف الذات. نغذّ السير نحو تخوم الوجود، نخطو جهةَ بلدانٍ عدة تسكن ذاكرتنا، وحين نودّعها تكون قد سكنتْ تجاربنا ومشاعرنا وذكرياتنا، وإذا تشكّل السفر ضمن هدفٍ عميق متسامياً بمعناه وبعيداً من التوافه من الأمور التي «تنطنط» عليها الجموع وتتنافس؛ حين يكون كذلك فإن صيغة تجاوبه مع كينونتنا تكون هائلة وغنية. 

كتب الفيلسوف غستون باشلار عن المكان وسحره في كتابه: «جماليات المكان» بكتابٍ غنيّ وشاعريّ ونفيس. بقراءة كتاب باشلار تبدو الأمكنة القديمة التي مررنا بها واضحةً بين أعيننا ضمن شريطٍ بصريٍ يمرّ... يمرّ بكل الأماكن الجميلة والغنيّة... بكل الأماكن المخضرّة والمليئة بكل الحسن وبأصنافه، ولكل مكانٍ سرّه الذي يكتشفه كل كائنٍ مرّ فيه ضمن معناه هو، إذ التجارب والعلاقات بالأمكنة لا يمكن توريثها أو ترويجها، أو تسويقها، فلكل مكانٍ فيضه الخاص على كل إنسانٍ له روح تتجاوب مع الغوامض والحدوس والإشارات والشّهُب التي لا تتضمنها اللغة أو الأصوات.

إن المكان ليس جماداً، كما تعلّمنا في المناهج الجامدة والمُجمّدة، بل للمكان الحيّ تعبيراته و«شيفراته»، بعض الأمكنة تكون بسيطة وغنيّة في آنٍ معاً. يأخذ المكان قوته من بساطته أحياناً، أو من كثافة تحدّيه لتصوارتنا له، ولطرق تعبيراتنا عنه. من هنا تكون الجولة في الأمكنة عصيّة على التوثيق الكلّي، والأماكن حتى وإن حملتْ التعبيرات الصورية اللغوية في كتب الرحلات وفصول المذكرات، غير أن الفحوى الحقيقية والشعلة المضيئة التي نشعر بطاقتها في أرواحنا يصعب تدوينها لغوياً، لهذا يكون الشعْر بالمكان هو تأويلٌ له وليس توصيفاً بالمعنى الحقيقي أو الشارح، إن وصف المكان الغامض بسحره لن يكون أكثر من قراءةٍ أو تأويل أو مقاربة أو محاولة أو منازلة لكل الغوامض التي يحملها بهيبته وإشعاعه المريح وبهجته المتناهية.

ثم إن إدراك جماليّات المكان لا يمكنه أن يتأتّى لمن لم يختبر ذاته أو وجوده، أو لمن لم يرسم صيغته الوجودية في هذا الكون، ذلك أن السائر بحماسةٍ ساذجةٍ مع السائرين يصعب عليه أن يدرك قيمة التمثال الجمالية، أو أن تسحره النقوش، أو أن تستهويه المتاحف، وعلى الضفّة الأخرى فإن إدراك جماليّات المكان يستحيل تحققه بالمعنى الناريّ المشتعل في المدن التي تتشابه، لقد دمّر التشابه الأعمى بين المدن معنى المدينة، ولو قدّر لإنسانٍ أن يفقد وعيه ثم ترحل به الطائرة من مدينةٍ إلى أخرى لما شعر بالفرق الكبير بعد أن يفيق، تشابهت الأمكنة حتى ملّ الناس من أنفسهم، إذ ما قيمة المكان حين تكون نظائره كثيرة في شتى الميادين؟!




كلما تأملتُ الملايين التي تسافر هاربةً من أمكانها المغلقة تتجدد القناعات وتتغيّر وتتحوّل، ذلك أن المحفّزات السياحية التي تحرّك المجتمع السعودي على الخروج ليست مناخيةً بالضرورة، لأنني أراهم زرافاتٍ ووحداناً في دبي والحرارة تبحر في درجاتٍ تبدأ بـ«40» كما أن المحفّز ليس ثقافياً، ذلك أن الذين يذهبون إلى لندن العاصمة التي أثّرت في مجرى تاريخ البشرية لا أرى الكثير منهم في المتاحف الفنيّة والطبيعية، تتعطّل قيمة الحافز في فهم الظاهرة السياحية، غير أن الأكيد أن ثمة فكرة أساسية لاحظتها ومفادها أن الناس لا يتجهون عادةً في سياحتهم للبقع الظّلامية، مهما علت نسبة محافظتهم، غير أنهم يذهبون للبلدان الحرّة، مهما كان مستوى انفتاحها.

لن تُدرك الملايين الراكضة معنى جماليّات المكان ما لم تكتشف فرديتها، وقيمة «الخيارات» التي تمنحُها المدنيّة، وما لم يكن للمكان إيقاعه في الذات وتأثيره على الرؤية، وكلما تأملتُ الاستعراض السافل للسذج والرعاع في عواصم عظمى لها حضارتها، أتمنى أن تبقى تلك العواصم صلبة حتى تظلّ إلى الأبد ممانعةً ضد التافهين والجموع التي ترهق البنى التحتيّة للمدن.

الاثنين، 18 يونيو 2012

النص الصوفي... إمكان المعنى واستحالة التحديد


النص الصوفي... إمكان المعنى واستحالة التحديد
فهد الشقيران
جريدة الحياة ١٨ يونيو ٢٠١٢



يتشظّى النص الصوفي منفجراً بمعانيه المتعددة بعدد قارئيه، لا يمتحن الحرف المعنى، ولا يُسائل المعنى الحرف، يتّحد المعنى بالحرف، تشتعل جذوات المعاني كنيران الأعراس، وإذا كان الشاعر بمعنى ما هو سارق النار، فإن النصّ الصوفي بمتاهته نورٌ لا يمكن امتلاكه، إنه بعمقه ومتاهاته يستحيل على القبض، يكسر الحدود مخترقاً كل الإمكانات والدلالات. وكل شرحٍ لنصٍ صوفي هو مجرد تأويلٍ مقترح، ولا يتناهى المعنى متبدّياً ببهائه في ذهن القارئ إلا إنطلاقاً من الشهّب الفذّة التي يضفيها النص الصوفي، إنه ليس محصوراً بأهل التصوّف الإسلامي، بل ربما أخذ التصوف مداه العالمي، على طريقة أدونيس في وضعه للسوريالية بوجه مقارنةٍ مع الصوفية لجهة المناقشة النصّية البحتة، وهو ما يعترض عليه بعض السورياليين العرب من مثل الشاعر العراقي عبدالقادر الجنّابي في طروحاتٍ ينتقد فيها كتاب أدونيس «الصوفية والسوريالية».


ثم إن النص الصوفي لا يمتحن الحقيقة وإنما يبحث عنها من دون أن يصل إليها، إنه قريب من ظلّ النص الذي كُتب في جيل فلسفات الاختلاف، يغدو الأسلوب شريكاً في الفكرة كما يطرح جيل دلوز، لا انفصال بين الفكرة وأسلوبها. الأسلوب غاية وله القيمة ذاتها التي تُعطى للمعنى. يعطي النص ظلّ معناه، لكنه يحجب كل المعنى. ثم إن النص الصوفي هو الضوء الذي لا يزال يرسل إشعاعه على كل الزوايا التي تحيط بثقافتنا، لهذا وصفه أركون في أطروحته بأنه أساس «نزعة الأنسنة»، واعتبره من قبل عبدالرحمن بدوي بأنه نتاج يتجاوب مع اشتعالات الإنسان وآلامه وأحزانه وأشجانه، بل وقوته وانكساراته، إنه نصّ إنساني محض، وحين كانت الوجودية تمثل ذروة الإدراك البشري للكينونة الإنسانية قارن بدوي بين الصوفية والإنسانية الوجودية.

إن التصوف رحلة من دون حد، وسفر من دون قصد.

في كتابه الممتع «دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة»، الصادر في شباط (فبراير) 2012 درس صادق جلال العظم «التصوف عند برغسون»، ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي بحث في مسائل كبيرة من بينها «الحدوس والغوامض» في تناول العظم، يبدو الغموض وسيلةً لإدراك ماهية الحقيقة بالنسبة لبرغسون، لا لغرض القبض عليها وإنما للتكثيف وتمديد الحدس الفلسفي، ورأى العظم أن برغسون: «يجعل من التصوف الكامل نوعاً من المعرفة الفائقة للعقل تتحقق، مباشرةً ودفعةً واحدة، وذلك من دون الاضطرار للجوء إلى الأساليب العقلية والجدلية التقليدية، إن في وسع العقل أن يتبيّن حدوده». يكتب برغسون في السياق ذاته: «ما يبدو غامضاً للعقل قد يبدو واضحاً كل الوضوح للحدس الصوفي الذي يختلف اختلافاً كلياً عن المعرفة التصورية التي ينتجها العقل». ثمة علاقة بين الحدسية البرغسونية وبين الرؤيوية الصوفية التي تتجاوز البرهانية العقلية.

من بين من أنصفوا النص الصوفي فلسفياً علي حرب في أكثر من موضع، وهو حين تناول أدوات محمد الجابري المحددة لبنية العقل العربية التي وضعت النص الصوفي ضمن «عرفانية محضة»، حينها أعاد علي حرب في نقده للنص الصوفي رهبته البرهانية، لكنها ليست البرهنة المباشرة النصّية، وإنما برهنة تأويلية، ذلك أن تصديع النص بالمعاني وارتحالات التأويل؛ هي صيغة النص القوي الذي لا يتآكل بفعل السنين والقراءات، وكل النصوص القوية تلك التي لا تنتهي معانيها بالقراءات، بل تتفجّر بطرقٍ متعددةٍ ومختلفة. النص الحيّ ذلك الذي لا تقتله القراءات ولا تصل لتخّومه التأويلات والمحاولات، إنه الغني بالبراهين الحيوية الفذّة، لا الفقير بالمعنى الواحد المقبوض عليه بكل سهولةً واتّضاح.

قوة النص في غموضه وبرهنته المتعددة، وهذا ما نلمسه في النصوص الحيوية، فليكن النص مقروءاً بالمعنى الأفقي، هاربين بأدواتنا عن أحادية الدلالات التي دمّرت الأمم وكادت تحرق العالم.

الخميس، 14 يونيو 2012

لماذا تُستفز الديموقراطية من أسئلة الفلسفة؟


لماذا تُستفز الديموقراطية من أسئلة الفلسفة؟
14 يونيو 2012
فهد سليمان الشقيران

(ريتشارد رورتي)

لم تكن الفلسفة مسؤولةً بشكلٍ أبدي عن المفاهيم التي تنتجها، ولا عن المسارات التي تحفرها؛ إنها تفجّر الصخر ثم تترك للناس حرية تشكيله، وتنصب المثال وتدع صورة نقشه للعابرين. حتى المفاهيم التي تدخلت الفلسفة في إنضاجها مثل «الديموقراطية» لا تزال تحرّك أسئلتها القلقة؛ لأن المفهوم يتحرّك بتمرد على أيّ قالب. الديموقراطية بوصفها الأداة الأكثر تداولاً من بين أدوات الحكم في التاريخ عاشت أسئلةً فلسفيةً عصيبة، غير أن الفلسفة لم تعن بالديموقراطية كجهازٍ منتجٍ للأصوات بقدر ما اعتنت به كفضاءٍ تتحرك داخله المفاهيم الفلسفية المتّصلة بالبشر، اعتنت بالديموقراطية المساواتية أكثر من ارتباطها بتحليلات الحكومة التمثيلية.


 في فيلم The Ides of March، نقرأ حرارة التنافس بين «الديموقراطيين» و«الجمهوريين» في الولايات المتحدة. «جورج كلوني» الذي يقوم بدور المرشّح الديموقراطي يبدو وحتى منتصف الفيلم مُقنعاً من خلال خطاباته للمشاهد والجماهير باستحقاقه للرئاسة، غير أن أحداث الفيلم المتتابعة تأتي بقصة «اغتصاب» قام بها كلوني ضد فتاةٍ من حزبه، ومن هنا يأتي سؤال الأخلاق في السلّم السياسي، بين وجهين من شخصية المرشّح للرئاسة يتنازع المشاهد نموذجين؛ نموذج الصلاحة الذاتية الأخلاقية، ونموذج المناسبة الاجتماعية والسياسية.


 سقوطه في اللحظات الأخيرة - ذلك المرشح - يعبّر عن دعاية «للأخلاقية الديموقراطية» وهي أنماطٌ تفعّل من دون نص؛ وإنما من تضاغطٍ اجتماعي يخلق رأياً عاماً وإن لم يكن مكتوباً أو معقْلناً. تعبّر الديموقراطية من خلال تماسّها بالفرد عن حمايةٍ له من زحفٍ غير مبرر للسلطة. تكون السلطة ضمن نطاق إرداته، وتكون السلطة ضمن أطرٍ قانونية وتنظيمية نبعت من «الروح الاجتماعية»؛ وللديموقراطية في أميركا - على سبيل المثال معنيان: «ففي معناها الأضيق والأدنى، تشير الديموقراطية إلى نظام حكمٍ تكون فيه السلطة بيد مسؤولين تم انتخابهم بحريّة، سأسمّي هذا المعنى للديموقراطية الدستورية، أما في معناها الأوسع فالديموقراطية تشير إلى مثالٍ اجتماعي أي المساواة في الفرص. أي المساواتيّة» هكذا يشير الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي. ذلك أن «المساواتية» جاءت بعد الديموقراطية، إذ حوّل الفلاسفة في القرن الثامن عشر من أمثال «توماس جيفرسون» الأميركي، و«كانط» الألماني، اهتماماتهم إلى طرح أسئلةٍ موجعة للتطبيق الآلي الأداتي الجائر للديموقراطية، جيفرسون - الفيلسوف اليساري وهو سياسيّ - قال جيفرسون: «إننا نتبنى هذه الحقائق كأشياء لها بداهتها الذاتية وهي أن جميع الناس خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقاً معينة غير قابلةٍ للتصرف، من بينها الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة» ثم يتّفق مع كانط بأن العقل وحده القادر على تقديم ترشيد أخلاقي وسياسي».

مكّنت الديموقراطية الأجواء للأميركيين أن يطرحوا أسئلة الإنسان، بدءاً من التمييز ضد المرأة، وصولاً إلى حقوق السود، يكتب رورتي: «لقد استغرقت حوالى مائة سنة، وحرباً أهلية ضخمة ومكلفة، قبل أن يُعطي الأميركيين السود الحق في عدم استعبادهم، واستغرق الأمر مئة سنةٍ أخرى، قبل أن يبدأ التعامل مع الأميركيين السود كمواطنين كاملي العضوية يتمتعون بالفرص نفسها التي يتمتع بها البيض. إن جيفرسون وكانط سيذهلان من التغييرات التي حدثت في الديموقراطيات الغربية في المئتي سنة الماضية، لأنهما لم يفكرا في التعامل المتساوي بين السود والبيض، أو في حق الاقتراع للنساء كشيء يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية التي أعلنا عنها».إن الديموقراطية تمنح الفضاء الحر الحيوي الضروري الذي تتشكل داخله المبادئ والمفاهيم وتتشكل وتتحول، يطهّر المجتمع صروح ديموقراطيته باستمرار من خلال الأسئلة التي تطرح علمياً وفلسفياً وقانونياً، تكون الحرية الاجتماعية هي التي تجدد الديموقراطية، ولا تكون الديموقراطية مجرّد أداةٍ مانحةٍ للحرية.

 من هنا يفاجأ العالم بالتجدد الذي يكوّنه المجتمع الحر عن نفسه، لم تعد الموروثات التاريخية لدى الأميركيين مؤثرةً في صياغة الرأي الذي يريدونه عن مرشّحيهم، احتاج السود في أميركا مئتي سنة حتى يتحوّلوا من مقموعين ومهمّشين إلى أن يكون رئيس الولايات المتحدة منهم، هذه هي فعالية الديموقراطية التي تطهّرها الأسئلة دائماً، وأقسى الأسئلة تلك الآتية من صميم الفلسفات. وبقدرِ ما تؤثر الفلسفة بالبشر، فإنها تقودهم إلى التأثير على النمط الديموقراطي المُعاش، وحين دعا «هابرماس» إلى «التواصل العمومي» كان يعلم أن آثار التواصل ستنعكس، من خلال تأميم الحداثة على المجتمعات الغائبة عن التأثير على العالم بسبب انكماشها الثقافي التاريخي، وذروة «الحوار العمومي» الذي نادى به هابرماس تجلّت في حواراته مع الشرق؛ اذ ألقى محاضراتٍ في مصر وطهران وفي حواراته مع رجال دين.

 بالحوار العمومي يمكن التأثير الحيوي على أسسٍ طال ثباتها، فيختبرها بعواتي رياحه، ويطرقها بمعاول أسئلته. ستبقى أسئلة الديموقراطية ما بقيت الفلسفة، وسيبقى تجديدها ما بقي المجتمع، وبالحرية تنتقل الديموقراطيات من أشكالها التمثيلية إلى ديموقراطية مساواتيّة. الديموقراطية في حالةِ استفزازٍ دائمةٍ تصنعها أسئلة الفلسفة.

الاثنين، 11 يونيو 2012

بطولة أوروبا... واستعراض القوة الجماليّة!


بطولة أوروبا... واستعراض القوة الجماليّة!
فهد سليمان الشقيران
جريدة الحياة  ١١ يونيو ٢٠١٢



 
تأخذ البطولة الأوروبية الرياضية وهجها من سحرها الخاص الذي تبثّه في عيون المشاهد، ذلك أن ما تبثّه ليست مجرد حركاتٍ رياضيةٍ أو مساحاتٍ خضراء، وإنما ترسل عبر مبارياتها وبطولاتها شيفرات من الرسائل الفذّة التي تضعنا أمام أسئلةٍ حيوية، مرور الصورة على مدرجات الحاضرين يطلعنا على نمط عيش استثنائي لأمةٍ استطاعت خلال القرنين الماضيين أن تتجاوز حماقات كبرى، إذ خاضت بالشراكة مع فلاسفتها معركة التنوير الكبرى التي قضت على هيمنة السلطات بأنواعها، تجاوزت بمعاركها منطق الأمة إلى صيغة الفرد، وهدّمت الصلة بين عروق الكنيسة وأرصفة الواقع.احتاجت إلى حربين عالميتين، وحرب مئوية، وحروبٍ أهليةٍ دينية لتصل إلى المفاهيم الحيوية التي تتغذى المجتمعات الأوروبية عليها، في الفنون والجماليات.
الجمال صيغة قراءة، حين تكون الحالات الجمالية متوفرةً في الحياة الاجتماعية يتربّى المجتمع على قراءته. الجُملة البصرية التي تفاجؤنا في المقهى والرصيف والمتحف تحثّنا على تفسيرها، نندهش واقفين أمامها محاولين إيجاد علاقةٍ تفسيريةٍ بصريةٍ بين ما نراه في المفردة الجمالية وبين ما تشعله فينا، وسواء كانت الشّهُب الجمالية التي تسحر أنظارنا جملة رياضية، أو صورة، أو لوحة، أو مشهداً سينمائياً، فإن الوقْع يكون لاذعاً حين تكون الذائقة الجماليّة متعهدة بالتربية والاعتناء، ثم إن الرؤية الجماليّة ليست منفصلةً عن السعي الحثيث لإدراك الموقع الوجودي للذات، من هنا كل هذا التعالق بين الفلسفة والفن، ينقل «مارك جيمينيز» في كتابه التحفة: «ما الجمالية؟» عن «دو سانت يان»: "إن لوحةً معروضةً تولّد في نفس متلقيها ما يُحدث كتابٌ في نفس قارئه من انفعال".
لا يكفي أن يتسمّر المتابع أمام شاشته ليبدي إعجابه بالبطولات الأوروبية عبر التصفيق الذي يصمّ الآذان، وإنما أن ينصت إلى المعنى الذي يُدرك بمثل هذا الاستعراض الأممي للثقافة الأوروبية. تتحدانا الثقافات التي تسحرنا بأعمالها الرياضية والفنية والثقافية لأن نختبر ثقافتنا التي تحاصرنا، ولأن نجدد أساليب أسئلتنا التي لم نجرؤ على مواجهتها بما يكفي، بل طالما أشحنا وجوهنا عن الرسائل العميقة التي تبث بغية حصر المعنى الرياضي بالركض الجسدي بعيداً من النسيج الذي أخذ قرونه الطويلة إلى أن بدا بمثل هذا التماسك والترابط.



لم يكن التفوق الأوروبي مجرد تفوق فلسفي، بل صحبه التفوق الفني والموسيقي والرياضي، ولنا أن نقرأ - فقط - عن التماثيل التي ترتبط بقصصٍ كبيرة، يكون التمثال شاهدها، لنقرأ رسائل عبدالرحمن بدوي «الحور والنور» وكيف تألق في قراءة التمثال الذي يقف أمامه قارئاً له أكثر من ساعةٍ أحياناً.
الجمال المبثوث في البطولة الأوروبية الأخيرة التي افتتحت في الثامن من حزيران (يونيو) الجاري ليس مجرد رياضةٍ حركية، وإنما نتاج اتحادٍ بين دولٍ أرهقتها الحروب والعداوات والأحقاد، أكلت من أبنائها في الحربين العالميتين أكثر من 80 مليون إنسان، هذا فضلاً عن القتلى في الحروب الأهلية، لكنها تجاوزت الإرث النفسي القديم، وتناوبت على التعاون. لم تكن «أبدية التخاصم» التي تصيغ تاريخنا العربي حاضرةً لديهم، إذ لازلنا نتخاصم على حروبٍ أهليةٍ وقعت منذ 14 قرناً، هذه هي القيمة الأولى التي ترسلها لنا البطولة الأوروبية. ثم إن البطولة تبثّ قيمة «الفردانية» الخلاّبة التي لم نجرّبها عربياً بعد، بل نرفضها ثقافياً. الجماهير في أوروبا نعلم أنهم ليسوا فلاسفة ليرسلوا من المدرجات رسائل فلسفية، بل الرسائل التي تُلمس نرصدها عبر المقارنة التي نجريها بين الحال التي كانوا عليها، والمرحلة التي يعيشونها.
 الجمال تجربة وجودية، للتمرّن المستمر على تنويع القراءات ورصد كل الجمل الجمالية أياً كانت ظاهرةً. إنه يتوزّع، وبحسب أوغست كونت:"لا يسعنا أن نكون على الشرفة، وأن نرى أنفسنا مارّين في الشارع"

الاثنين، 4 يونيو 2012

ضحايا أكذوبة «تعليم الفنون»


ضحايا أكذوبة «تعليم الفنون»
فهد سليمان الشقيران
جريدة الحياة الإثنين ٤ يونيو ٢٠١٢





منذ أن يلمسّ الطفلُ أول كرّاسٍ، يلوّنه ضمن خياله، يختار ألوانه ليجسّد الصورة التي تؤرّقه في خياله، يبدأ الطفل مع كرّاسته بحُلم تجسيد الخيال، يرى في الخطوط المبعثرة بعضاً مما يتخيّله، يغدو اللون ساحراً له، وحين يهوي على الأرض راسماً ما يريد من دون أستاذٍ أو سلطة، ينصت الطفل إلى موضوعه، إلى عبثيّة اللون، وأبدية الخيال. في البيئة الفنيّة تطوّر هذه الخطوط المتشابكة، التي لا ضابط لها، لتكون مشعّةً تقدح الرؤية الفنيّة، ويسعى لتجسيد خيالاته. تبدو العبقرية بملامحها الفذّة في الطفولة، تكون الاهتمامات التي تمارس تجريبياً من خلال عبث الطفل أساساً لتكوينه المستقبليّ. على الضفّة الأخرى؛ وفي البيئة الجافّة المتصحّرة، تمحق الموهبة وتسحق، وتُطرد الخطوط المتبعثرة خارج نطاق التجسيد، يملى على الطفل ما يجب عليه أن يجسّده رغماً عنه... يُضطهد الخيال.

 يبحث الطفل من خلال ألوانه عن شكل خياله. يحبّر أجزاءً مما يتخيله ولا يفهمه، يسعى إلى وضعه ضمن كرّاسته الأولى، غير أن العودة بالذهن إلى حال الفنّ لدينا نرى التصحّر والجدب، مساحاتٍ من الأراضي الفنيّة الخصبة، قضي عليها بفعل محوها وطمسها، ذلك أن الثقافة الممانعة للفنون اختارت أن تمنع «التجسيد»، تحصر الخيال بنطاقاتٍ ضيقة، كل الصور المشوّشة التي يراها الإنسان في ذهنه ممنوعٌ عليه تجسيدها، أصيب الفنّ بحالٍ من «الصحرنة» والقمع. يسأل غستون باشلار عن قيمة الحياة من دون «خيال» من دون «أحلام يقظة» يختلط فيها الحُلمُ بالماء؟! ونعيد سؤاله بوجه صحرائنا الصفراء المتجهّمة، ما قيمة الإنسان من دون خياله؟ وما قيمة ما يجسّده إن لم يكن نتاج شقاء الخيال ونعيمه.

ولو أعدنا فحص صيغ التناول الفنّي تعليمياً، لألفيناه محصوراً برسم شجرةٍ أو كوخ، فَصلت الحصص الفنية بين الخيال والتجسيد، خضع الفن لحال التلقين التي تملى على الطالب منذ صفوفه الأولى، إذ يبغته المعلم زاعقاً بأعلى صوته: «ز، ر، ع» منذ الحصة الأولى!



هذه المسافة الظالمة التي تؤسسها حصص الفنون في المدارس بين الخيال والأداة، بين الصورة والتجسيد، هي التي أحالت الكثير من العقول إلى صحارٍ مقفرة، لا تكاد ترى على نباتاتها التي تحتضر ورقة خضراء.

هذه هي حصص تعليم الفنّ، لا تتجاوب مع إبداع الإنسان وعمقه. من المستحيل أن تنمو بذرة الفنّ في ظلّ المحو والطمس لكل إمكانات التمرّد في الخيال، والجنون بالتجسيد.

كل حدٍ للفنّ هو تسلّط عليه. لكل فنانٍ شروطه هو على فنّه من خلال تشرّبه لفنون غيره، وتعمقه في قراءتها وفهمها، والاشتراطات التي توضع على الفنّ هي اقتراحات لإضاءة التجربة وإغنائها، وإلا فإن الفنان يبتكر شروطه من خلال تجربته، والشروط ليست أبدية وليست متعديةً لغيره، الفنون ليست شروطاً. الفنّ مساحة بلا حد، محيطٌ بلا شاطئ. تنضج التجربة الفنيّة بإشعال الخيال مصحوباً بالتجربة الذاتية والوجودية، بنصاعة الرؤية، بشقاء الرؤية أحياناً، حين ترى في زوايا الكرّاسة ما يعذّب ذهنك، ويرحل بك نحو «خيال الطفولة». كل عبقريةٍ تحتاج إلى نسبةٍ من الحفاظ على البراءة الأصلية، يمتنّ أينشتاين لـ«قلق الطفولة وأسئلتها» التي لم تقمع كما قمعت لدى مجايليه وأترابه؛ حافظ على تلك الأسئلة الشقيّة ليشيد مشروعه مجسّداً لأسئلة طفولةٍ تتخيّل العالم بدءاً وانتهاءً، وتحاول فكّ اللغز.

لكل عبقريةٍ براءتها الأصلية المحفوظة التي تؤهل الإنسان ليكون بخيالٍ مفتوح، يحمل رؤىً تنطلق ضمن أفقٍ لا تهوي ضمن نفق. كلما رأيتُ هذه الكراسات المحمولة بأيدي الأطفال وهم يهمّون بالدخول إلى المدارس والحصص أفكّر بالطمس الذي تمارسه أدوات التعليم ضد كنوز الخيال البريء... جرائم كثيرة تقوم بها كل من: حصص الفن والبيئة والثقافة ضد «إرادة التجسيد» التي تتغذّى على الخيال.


الأحد، 3 يونيو 2012

الشك في "الشماغ"


الشك في "الشماغ"
فهد بن سليمان الشقيران
جريدة الحياة 14 أبريل 2010

 

ننتظر هذه السنة قرص شمسٍ ساخن؛ بإمكانه شواء أجسادنا،  ورغم إجماع الناس على حرّ هذا الجوّ ولهبه، ووقوعهم تحت وطأته، إلا أننا لم نشكّ بعد في أسباب استمرارنا في الاستسلام لألبستنا التي تزيدّ الجوّ حرارةً، وإذا كان الفيلسوف الألماني هيجل يقول:"الثياب هي مايصبح به الجسم دالاً وحاملاً لعلامات خاصة" فإنني لا أرى في ألبستنا –خاصةً في الحر- إلا الحصار الجسدي.  

في أوربا وبعد الثورات والإصلاحات بدأت سلطة اللباس كعلامة دالة على حرفة أو رتبة اجتماعية تخفّ وتتآكل، نظير تحوّل اللباس من غاية ترتبط بالهوية، إلى وسيلة تساعد على إتمام العمل وسهولته، على عكس ثقافتنا العربية التي تعتبر اللباس غاية في ذاته، لارتباطه بالهوية، ولعلاقته برؤية الناس لك. الناس يصنفونك على ما تلبس أحياناً. أما أن تلبس ألبسة مخالفة للهوية فأنت تقع في مشكلة مع النظرات الحارقة التي لا تقل حرارتها عن حرارة الشمس التي سيشوينا قرصها خلال الأشهر القادمة. ومع كثرة الحديث الدائم عن الأفكار والشكّ فيها، إلا أن ما ساءني غياب الحديث العلمي عن الألبسة وضرورة تغييرها والشكّ فيها. ومن أكثر ما أعجبني في هذا المضمار مقالة لعبد السلام بنعبدالعالي عن "اللباس والهوية" وهي مقالة إلا أنها مكتنزة بالدلالات فهي بحث مختصر لعلاقة اللباس بالهوية.  

فهو يرى: "أن خير وسيلة لخلخلة هذه الهوية اللباسية هو الكشف عن حركة تكوّنها". وفعلاً فلو قلّبنا التاريخ، لوجدنا أن الهوية اللباسية جذوراً في التاريخ، وأنها توسّعت بتحوله. نحن في الخليج نضع على أجسادنا الالبسة التي تتميّز بالحصار خاصةً لمن يريد الحركة المستمرّة والعمل المنتج، فهي رغم فوائدها إلا أن هذه الفوائد قد توجد في ألبسة أقلّ حجماً منها، كما أن الضخّ الذي تمارسه أشعّة الشمس، والخيوط التي تجلدنا في الظهيرة تحتّم علينا أن نطالب مجلس الشورى بدراسة هذا الموضوع، لعرضه على المقام السامي من أجل المساهمة في تغيير النظام الذي ينص على "اللباس العادي" في الدوائر الحكومية، فالمُراجع مثلاً يجب أن يلبس اللباس الرسمي من أجل أن يعقّب على معاملته، وفي هذا النظام ترسيخ لسلطة اللباس التقليدي.



لقد كان لفترات المقاومة التي عاشها العالم العربي ضدّ القوى الغازية دور في استعمال اللباس كدلالة عميقة، لغاية التعبير عن الهوية الذاتية وعن الموقف الشخصي، كما هي حالة أغلب الدلالات الرمزية التي يغصّ بها المجتمع العربي، نظير ارتباطه بالكبت والقهر من الداخل والخارج، فآل به المطاف إلى استعمال اللباس كوسيلة وغاية معاً، أما اليوم ومع تحوّل العالم وتغيّره ومع اشتداد الأزمة المناخية وتحولاتها آن الأوان أن نشكّ في معاني ألبستنا، وأن نخضعها للفحص والتحليل، ولباسنا الخليجي اللباس المليء بالأطراف، بحاجةٍ إلى شكّ، خاصةً وأن اللباس الرسمي سيبقى له مواسمه التي يرتدى فيها، أما في أوقات كثافة العمل يحتاج المواطن إلى لباس يكون عوناً له على عمله بدل أن يكون عائقاً تصطاده الشبابيك والممرات. 

ذلك التلكؤ في تغيير اللباس ليس أمراً بسيطاً، إن هذا الطلب على سطحية تظهر للقارئ للوهلة الأولى، إلا أنه يشرح العمق الفكري الذي يكمن وراء تثبيت اللباس، إن هذا العسر الذي نشاهده من البعض إزاء هذا الطلب هو "عسر تجاوز حضاري" ومن هنا كان اللباس رمزاً وتعالى على كونه مجرّد وسيلة خاصةً في المجتمعات الساكنة التي سيتفزّها التغيّر. إن الشكّ في اللباس من إزارٍ ورداء يعتبر جريرة من جرائر الذنوب، إنها الصخرة الفكرية المتلبّدة على العقول والتي لا يمكن زحزحتها في ظروف ساكنة، وتحتاج إلى سنوات ضوئية من أجل تغييرها أو الشكّ فيها.

 وحتى ينقرض الحرّ سنظلّ نسنّ "مرازيمنا" كل مساء ونستهلك "المريتو" والـ"كبكات" ونظلّ نرفع أعناقنا في الشوارع والممرات ونطلق أرجلنا في الهواء، وننسى أننا حتى في ألبستنا نرزح تحت الاستهلاك؛ وأننا أصفار كثيفة ومتوالدة على الشمال.

الاثنين، 28 مايو 2012

عن أي ديموقراطية نتحدث؟!



عن أي ديموقراطية نتحدث؟!
فهد سليمان الشقيران
جريدة الحياة 28 مايو 2012






تطرح الديموقراطية نفسها كسؤال كلما جدّدت احتكاكها بالمجتمع، بين من يرى فيها مقدمةً لنتائج، ورؤية أخرى ترى في الديموقراطية «نتيجة لمقدمات». بين شرط أرضٍ ثقافيةٍ خصبة تنبت عليها ثمار الديموقراطية يانعةً بكل نضارتها، وبين رؤى تعتبرها رحلة تربيةٍ تنضج المجتمعات بإخفاقها في تجريبها. إنه خلاف فلسفي متجدد بمستوى تجدد أسئلة الديموقراطية التي تتعرض لتعديلات واشتراطات وإبداء وإعادة حتى في الدول التي بلغت الذروة في تطبيقها.
كلما ضرب مفهوم الديموقراطية بمعول الفلسفة فجّر إِشكالياته، إنه مفهوم سياسي يُدرس بالتجارب، ويتعرّف عليه بعدسات الفلسفة لجهة إمكان تجاوب تطبيقه مع نسيج المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته.
براتراند راسل يقول: «إن الديموقراطية تكاد تكون مستحيلة التطبيق في شعب جاهل، وهي ترتبط بالتعليم والثقافة». كارل بوبر جاء بعد هيغل، وهو من أشرس نقاد فلسفة هيغل وفي أطروحته حول «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، ربط بين الديموقراطية ومستوى تحضر الشعب بحيث يصل إلى حال احتياج للنظام الديموقراطي، فالثقافة الديموقراطية لدى بوبر تسبق تطبيق الديموقراطية الآلي. أما الفيلسوف الألماني هيغل فهو نقيض رؤية بوبر وراسل، يكتب: «إن الشعوب ليست قاصرة ولم تكن قاصرة في أية مرحلة من المراحل على الإطلاق». يستمر هيغل: «إن تطبيق الديموقراطية بين شعب تغلب عليه الأمية ستكون عرجاء أو فاسدة أو ناقصة لكنها ستكون ديموقراطية على أي حال، وسيكون وجودها أفضل بكثير من انعدامها، فالناس تمارس الديموقراطية وتخطئ».
رأى هيغل أن: «أفضل علاج لأخطاء الديموقراطية هو المزيد من الديموقراطية، فالممارسة تصحح نفسها باستمرار وتعدل من أخطائها إلى أن تصل إلى الحد الذي نرجوه، إننا هنا أمام تدريب يشبه تدريب المواطن على قيادة السيارة لا يمكن أن يؤجل بحجة أنه يقع في أخطاء، لا وصاية على الشعب حتى ولو كان أمياً متخلفاً، لأنه هو في النهاية صاحب المصلحة الحقيقية».
التجربة العربية مع الديموقراطية جمعت نفسها من خلال أمثلةٍ ونماذج يمكنها أن تكون موضع حكمٍ على تطبيقها. لقد جربت عربياً بوصفها مقدمةً لنتائج، فتحوّلت إلى آلية لحراسة ما هو قائم، من استبدادٍ وطغيان، واستثمرت أصولياً لتفريخ العنف، ولأنها استخدمت كمقدمةٍ لنتائج، لا نتيجةً لمقدمات كررت أمراض المجتمعات التي تتحرك فيها، إذ حرست القبليّة، وأصبحت الطائفية وسيلة الضغط الأول لتحريك الجموع بكل تنويمٍ مغناطيسي إلى الصناديق واضعين المرشح الذي أملاه عليهم «المثال» نصب أعينهم سواء كان المثال شيخاً، أو سيداً، أو موجهاً، أو مرجعيةً حركية أصولية.

(براتراند راسل)



حرست «ديموقراطية المقدمات» كل الأمراض واعتنت بها، وصارت الإكسير لجميع أنواع السفالات التي تمارس باسم السياسة. سيّسوا الديموقراطية، لكن الديموقراطية لم تشتغل بمجالها السياسي.
تُسحر بعض الأمثلة الانتخابية العيون، يظنّون أن هذا الصندوق هو المصير، بينما يأتي الصندوق بشخصٍ ويذهب بآخر، لأن الثمرة لا تنبت من دون شجرة. لم تنمُ الديموقراطية الأوروبية إلا بعد القضاء على أمراض التغلب، وسحر «الأمثلة» وهوس «الأساطير».
تحتاج الديموقراطية إلى حيوية الفضاء مدنياً حتى تتحرك باتجاه التنمية. ديموقراطيات المقدمات عربياً لم تحقق التنمية. يكتب جورج طرابيشي: «الديموقراطية تتعارض في ماهيّتها بالذات، مع فكرة المثال، فهي أكثر مذاهب الحكم واقعيةً، ولا تتطلب أبطالاً ولا أطهاراً، بل كلما كان الحكّام عاديين كانت ضمانات الممارسة الديموقراطية من حيث هي بالتعريف (لعبة) أكبر».
الديموقراطية ليست غايةً بحد ذاتها، وإنما وسيلة، والمجتمعات التي - قصدها هيغل - بمعنى الاستيعاب للديموقراطية تدريجياً تلك التي نفضت الغبار عن العيون وبدأت بفركها بحثاً عن النموذج المبتغى دنيوياً بغية الخروج من تيه واقعها. حين يتعامل مع الديموقراطية كمقدمةً لنتائج ستأتي تغدو غاية عقيمة لا تلد تنميةً ولا تؤوي الدنيوية، بينما تزهر الديموقراطية حين تأتي بعد التعاهد الثقافي الملحّ وخوض الصراع مع مساءلة العوائق كلها من دون خوفٍ أو مواربة.

الاثنين، 21 مايو 2012

أوهام الحوار النموذجي


أوهام الحوار النموذجي

فهد بن سليمان الشقيران

جريدة الحياة 21 مايو 2012

(يورغن هابرماس)


يأخذ الحوار دروبه المتوزّعة، ويسير بخطوطٍ غير مستقيمة. قوته في فوضاه، في شتاته. إنه ليس نموذجاً، إنه سير في فضاء السؤال، ورحلة بلا زاد للتنقيب في جيوبٍ مهجورة وسط قرص اللهب. يتعقّل الحوار حيناً، ويأخذ صيغة السرد المستمر في أحايين أخرى. الحوار ليس نموذجاً، وليس منهجاً، إنه بمعنًى ما شكل من أشكال «إرادة التعقل» كما يعبر «هيراقليطس»، وهو في بعض وجوهه «سلوك اتصالي» كما يكتب هابرماس، وفي وجهٍ آخر درب من «دروب التيه» كما يحب أن يصف هيدغر عموم الرحلة السؤالية والتي تسكن الكائن الساكن في «بيت اللغة» كما يعبر هيدغر أيضاً. الحوار فضاء عمومي رحب، به تطلق الآراء والأفكار، وتختلج المشاعر، وكلما توزّعت دروب الحوار وتشتت طرقه، وتشعبّت متاهاته كان ثرياً لافتاً، لأن أي تنميط له يحوّله إلى حصة مدرسية فجة.

وإذا كانت وظيفة الفكر «التجاوز» - كما يشير جيل دلوز - فإن الحوار أحد أدوات التجاوز. والحوار لا يقرّب الرؤيتين، بل ربما كانت إيجابيته في إبعادهما. تبتعد الرؤى لتلتقي ضمن ضوء وضوحها، كما في حوار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والكاردينال السابق والبابا الحالي جوزيف راتسينغر؛ تلتقي الرؤى لتزداد بُعداً، وليكون البعد أكثر نضجاً بين رؤيتين يستحيل التقاؤهما، وهذه صيغة خلاّقة من صيغ الحوار. درب الحوار ليست واحدة، وصيغه ليست نموذجية، ووظائفه ليست معلومة. يفاجئنا بشظاياه، بالبُعد أو القرب، يضعنا أمام شرر الأسئلة، أو يلسعنا بسخونة السجال، أو ننعم ببرد متعته. إنه ليس نموذجاً.

ثمة عبارة سمعتها أخيراً ومفادها: «لا تقاطعني»، وهي عبارة وعظية، يحسب لها انطلاقها من أخلاقٍ تتعلق بعدم الخطأ على المُحاوِر أثناء إجراء الحوار، غير أنها - بمضمونها الواضح الداعي إلى عدم مقاطعة المحاور - مجرد فكرة نموذجية عن الحوار العصي على التحديد. المقاطعة جزء من سلوك الحوار المعتاد، حين يكون الحوار بلا نموذجٍ ضيّق تكون المقاطعة ثريّة. صمّ صاحب الدعوة آذاننا منذ سنواتٍ مضت عن ضرورة نمذجة الحوار، وجعله ضمن شروطٍ طويلة عريضة أساسها «اللا مقاطعة»، ولم تكن دعوته هذه إلا فكرة ساذجة عن الحوار المدرسي البسيط الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.




تحويل الحوار إلى ترسانةٍ من الشروط يعني منع هواء حرية السؤال من النفاذ إلى فضاء الحوار. محاربة المقاطعة وجعلها عيباً من عيوب الحوار إنما يعبّر عن الخوف والرعب من الفضاء المطلق الذي يتحرك بداخله الناس في اتصالاتهم الحوارية. المقاطعة هي التي تحيي الأسئلة، وتدفع المتحاورين إلى الاستمتاع أكثر بالحوار وسيره. والمقاطعة ليست سيئة إلا لدى من أرادوا تقزيم الحوار الحر العصيّ على القوالب إلى منظومة مدرسية، يدار فيها الحوار بالعصا. الحوار الفكري ليس جلسة برلمانية أو خصومة في محكمةٍ تستخدم فيها القوة. إنه كينونة وجودية، والتقاء بين كياناتٍ بشرية، تنبض بأسئلتها، بكل مكنوناتها، تفتح رصاصات الشك باتجاه بالونات اليقين.


الحوار أنبل الممارسات التي تجري بين كائنٍ وآخر، وقيمته في عفويته وحيويته، أتذكر الحوارات الطويلة بين «زوربا» وصديقه البوذي في رواية «كازانتزاكس»، تبدأ نهاراً وتنتهي ليلاً، تستأنف وتقطع، يغشاهم النوم، ثم يستكملان الحوار الأبدي، حوار مستمر حول أسئلةٍ كبرى، بين كائنين نقيضين، أحدهما حسّي متعي، والآخر روحي بوذي، وتستمر الحوارات الماتعة التي تتغذى على المقاطعة، وتنجح بها.


علينا أن ننهي حالة تقليم أظافر الحوار، وتحويله إلى فصولٍ مدرسية ساذجة، ولنطلق حواراتنا في الهواء الطلق، ولنقاطع بعضنا البعض، فالحوارات يجب ألا يكون لها أي هدف، واقتناع أي من الطرفين ليس شرطاً، ولا هدفاً، يكفي الحوار أنه مشتغل بكل مفاعيله التحريضية على التجاوز... على التجاوز الأبدي.








الأحد، 20 مايو 2012

طه حسين وقصة التحريض الديني*:

طه حسين وقصة التحريض الديني*:
عبد العزيز السويد: مداهمات قام بها رجال دين قبل ثلاثين سنة لمكتبة تنويرية في بريدة كانت تقوم بإعارة كتب طه حسين:




 فهد الشقيران من بريدة: باستمرار يعود اسم "طه حسين" مرةً أخرى إلى الظهور، وذلك من أجل إنصافه للدور التاريخي الذي لعبه من أجل دفع مسيرة التنوير العربي، صحيح أن كتاباته لم تكن فكرية عميقة ومنهجية صارمة على طريقة "المشاريع"، وإنما جاءت مبطّنة في سياق "الأدب" غير أن بعض الباحثين في دراساتهم الجديدة رأوا أن هذا "الدفن"  للأفكار بين سطور الأدب، هو سر تفوّق اسم "طه حسين". ولعل إنصاف طه حسين جاء مبكّراً من "المغرب" العربي، حيث كتب عبد الله العروي: "إن ثلاثة أرباع النقد الأيديولوجي يظهر عندنا على شكل نقدٍ أدبي، فيتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية، ومحمد عبده وسلامة موسى، وطه حسين روّجوا لأفكارهم التجديدية، بواسطة دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه".
عبد السلام بنعبد العالي –المغربي هو الآخر- يوافق العروي على النص السابق، فهو رأى أن طريقة "طه حسين" في عرض الفكرة كان لها أبلغ الأثر في الترويج للمنهج الديكارتي بشكل أكبر مما روّجت له كتابات فلسفية رصينة. ويمكن أن نعرف قيمة طه حسين بنتائجها، حيث ساهم في إلهام بعض أهم المفكرين العرب ويذكرون هذا في كتاباتهم منهم "حسن حنفي، ومحمد أركون، وعبد الرحمن بدوي، ونصر حامد أبو زيد".

طه حسين في السعودية:

يلفت المارّ من طريق "محمد بن عبد العزيز" المعروف بشارع "التحلية" في مدينة الرياض  شارع اسمه "شارع طه حسين"، وهو شارع فرعي لطريق رئيسي وحيوي، و شارع "التحلية هو أهم شارع للمقاهي والمطاعم والتنزّه في الرياض وهو موطن تجمّع شبابي، وفيه تحدث الاحتفالات وترتفع أصوات موسيقى السيارات، كأن طه حسين وجد نفسه بجوار شارع لا يعرف إلا الفرح. لكن -ومن جهةٍ أخرى- عُرف اسم "طه حسين" في السعودية عبر المكتبات "التنويرية" المتحررة التي نشطت في بعض المدن، وهي مكتبات كانت تروّج لمبادئ رئيسية حول الحرية والعدالة والتنوير وتعارض البرامج الدينية الأيديولوجية، كما عُرف عبر التصعيد الديني الذي وجّه من قبل "خطباء المنابر" في تلك الفترة الهامة من تاريخ الثقافة في السعودية، وكان التشنيع الديني ضد طه حسين-ربما غير مسبوق- ضد أي شخصية عربية فكرية حتى اليوم.

عبد العزيز السويد شاهد على مرحلة حجب النور:

في زيارتي لمدينة بريدة التقيت الكاتب السعودي عبد العزيز بن علي السويد وهو مثقف سعودي، وشاهد على مرحلة  "المكتبة الثقافية" التي كان لها دور تنويري ريادي قبل ثلاثة عقود، وتحدّث لنا عن تلك المرحلة قائلاً: (اللاعنون رحلوا وبقي طه حسين ذاكرة الأدب ونور في عقل الفكر العربي، نسي الناس أولئك الذين تبرموا من العميد طه حسين، ويتذكر الناس حتى الآن أنوار ذلك الرجل الأعمى الكفيف طه حسين).
عبد العزيز السويد يتذكّر أيام المعهد العلمي في مدينة بريدة -وهو معهد ديني شرعي يتبع جامعة الإمام محمد بن سعود- يقول: (في المعهد وفي المرحلة الثانوية، كنا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن طه حسين عند ذكر اسمه أو سماع لقبه، كما عودنا شيوخنا لقد كنا إذا اضطررنا لكتابة بحث أو موضوع عن الأدب المعاصر آنذاك وجاء اسم طه حسين كعملاق ورائد للأدب والفكر، لابد أن نصحب الاسم بالتعوذ منه).
أما عن موقع طه حسين في "المكتبة الثقافية" فيقول عن تلك المرحلة: (عندما أنشأ  بعض الشباب مكتبة ثقافية في بريدة لتكون مصدراً للثقافة الحديثة، طالت ألسنة بعض المشايخ عبر اتهام  المكتبة أنها تضم كتباً في الإلحاد والزندقة، فطلب القائمون على المكتبة من هؤلاء الناقمين عليها الحضور للمكتبة والتفتيش عن كتب الإلحاد والزندقة، فلما لم يجدوا شيئاً وخابت ظنونهم، قالوا ولكن لديكم كتب لـ طه حسين وهذا يخرب  عقول الناشئة).
(وحينما أتيحت كتب "طه حسين" للاستعارة من تلك المكتبة اعتبر البعض استعارة تلك الكتب من دلائل ضعف الإيمان) وتلك المكتبة التنويرية لم تعد قائمةً الآن بالطبع، وكانت معارضة لتوجهات دينية  كانت تنضج في تلك الفترة خاصةً في المعهد العلمي "الديني" في بريدة الذي كان في تلك الفترة يضم من بين أساتذته محمد سرور زين العابدين.  
(شارع باسم طه حسين في مدينة الرياض)



شيخ سعودي "طه حسين شيطان أدبي":

 يتعجّب عبد العزيز السويد من ذلك التحريض العلني ضد طه حسين، ويحكي لنا في ذكرياته عن تلك المرحلة ويقول: (مرة قلت لشيخي الكفيف يا شيخ طيب لو كتبت اسم " طه"  لوحده هل يلزمني التعوذ منه قال شيخي لا "طه" اسم نبي، قلت له: و "حسين" اسم ابن نبي، قال: نعم ولكنك إذا جمعت "طه وحسين" صار اسم "شيطان أدبي").
 يتذكّر السويد في حديثه مواقف أخرى مع شيوخه في المعهد الديني، يقول:(سألت شيخي مرة بعد أن مُلئت عقولنا الناشئة  بأسماء الفرق الضالة وزعماء هذه الفرق من مثل الجهمية والقدرية والمعتزلة، قلت له يا شيخ: طه حسين يصنّف  تحت أي فرقة من فرق الضلال والبدع؟ هل يكون مع معبد الجهني أو الجهم ابن صفوان أو غيلان الدمشقي؟ قال شيخي: بل يصنف مع فرعون وهامان).
وإذا كان "طه حسين" حظي بعد أن تمّ فرم اسمه على المنابر بشارعٍ فرعي متفرّع عن شارع الموسيقى والمرح الذي هو شارع محمد بن عبد العزيز في الرياض غير أن وضع هذا الشارع لا يعبّر عن حقيقة الموقف الديني من "طه حسين" إذ كان للمنابر دورها في التحذير من اسم "طه حسين" ويتذكّر عبد العزيز السويد أن: (خطب الجمعة صار بعضها  يخصص للتحذير من قراءة كتب عميد  الأدب العربي، حتى ولو كان خطيب الجمعة لم يقرأ حرفاً واحداً من مؤلفات طه حسين).

حصار ديني ضد كتب طه حسين:

لئن كانت أقسام المراقبة الإعلامية في "الجمارك" السعودية بدأت تتسامح بعض الشيء مع الكتب التي تُستخدم للاستعمال الشخصي غير أن عبد العزيز السويد يطرح موقف بعض المراقبين في "الجمارك" من كتب طه حسين، يقول: (في إحدى المرات أحضرتُ مجموعة كتب من إحدى الدول، وعرضْتها على مراقب المطبوعات في الجمارك لفسحها وكانت تضم بالإضافة إلى كتب "طه حسين" مجموعة كتب فلسفية لنيتشة وأسبينوزا وغيرهم، وفسح الموظف لجميع الكتب إلا كتاب:( الوعد الحق) و(الحب الضائع) لـ طه حسين، فقلت له أنها كتب فكرية أدبية وروائية عادية، فقال:لا، إذا كان  المؤلف طه حسين فأنا أريد أن أبرئ ذمتي، قلت له وهل هي  من ضمن قوائم الكتب الممنوعة رسمياً؟ قال: لا، ولكني لن اسمح  بأن تتسبب هذه الكتب لـ طه حسين بتضليل  أحد من الناس). لقد وصل التحريض الديني ضد طه حسين إلى حدّ اعتباره مروّج الضلال.

أثر طه حسين الفكري:

ساهم طه حسين في رسم آثار فكرية مهمة على امتداد الوطن العربي، وربما كان هذا التأثير يأتي بوضوح لدى مفكرين رئيسيين في السعودية، حيث تحوّل طه حسين إلى "ديكارت عربي" عبر نشره منهج الشك. الكاتب عبد العزيز السويد فيتحدّث بحميمية عن أستاذه الفكري والأدبي طه حسين حينما يقول:(هذا الرجل العقلاني الفذ طه حسين علمني أول درس في الحياة كيف أشك بعقلي، وإذا شك الإنسان بعقله سيبحث  ويتعرف على عقول أخرى، مجرد الشك بنتاج العقل يصنع أسئلة، وهذا هو دور عقل الإنسان السوي علمنا طه حسين كيف نفحص أفكارنا ومسلماتنا وعقولنا كيف نشك بما لدينا، حتى نصل بالبحث الدؤوب عن الحقيقة.
يصفه السويد لا بـ"عميد الأدب العربي" وإنما أيضاً بعميد "الشك" العربي.
السويد يختم حديثه عن مرحلة "التحريض الديني" ضد طه حسين بقطعة أدبية: (في كل يوم نتذكر طه حسين حاملاً كومة من الكتب فوق ظهره كومة من اللعنات هناك من قال له: أنت أعمى لكنك شيطان يا طه! لكنه لم يبال كثيراً، كان يتذكر (مرجليوث) و(الأيام) ويبتسم لنا تاركا لنظارته السوداء جدا أن تشرح الموقف، موقف العقل من الذات، موقف الشك من العقل وموقف العقل من البداهات الأولى، في كل  يوم نتذكر  طه حسين،  رحل بعيداً هناك في عصر ضوئي تماماً).

*أصل هذه المادة نشرت في صحيفة "إيلاف" الإليكترونية في 5 نوفمبر 2008.

الثلاثاء، 15 مايو 2012

تسيّد الأسلوب ... وتلاشي النظرية الشاملة


تسيّد الأسلوب ... وتلاشي النظرية الشاملة
15 مايو 2012
فهد سليمان الشقيران

(مارتن هيدغر)



من بين أكثر الانتقادات إثارةً للملل التأكيد الدائم على أن المجتمعات العربية لا تقرأ، هذا بعد أن تسرد بطبيعة الحال الأرقام والإحصائيات التي تتناول الفرق بيننا وبين المجتمعات الأخرى، باتت هذه الفكرة مملة لأنها لا تحتاج إلى تأكيد أساساً؛ أظنّ أن المشكلة ليست في ضعف معدلات الصفحات المقروءة للإنسان العربي نسبةً إلى غيره فقط، بل الأزمة في المعنى الذاتي الذي تدار به قراءة هذا النص أو ذلك الكتاب.إنها أزمة آليات قراءة قبل أن تكون أزمة قراءة بحتة. 

منذ انهيار النظرية الشيوعية على المستوى الواقعي والنظريات الشمولية تفقد عصبها وتتلاشى محفزات إنتاجها، تداخلت الغايات مع الوسائل في ظروف إنتاج النص، أخذ الاسلوب قيمة النظرية، امتزج الأسلوب بالنظرية، صار النص الفلسفي لا يحرك المجتمع من خلال صياغته، وإنما تتحرك به الذات من خلال الترحال داخله، والفناء بشعرية النص الفلسفي والغوص بتأويلاته وآفاقه، تحركت أدوات الفعالية بين الذات والموضوع، بين القارئ والنص، بين الخيال والحكاية، تآلف ما كان مختلفاً، بتلاشي النظرية الشاملة ثبت التحالف الضمني بين الفكرة الصلبة والأسلوب الجميل، صار النص بمربعاته يطرح نظرياتٍ متعددة إلى ما لا نهاية، إن النص يخلق النظرية من خلال القراءة التأويلية، ولا يطرحها من خلال الأسلوب المدرسي. "فيكتور لوبيز" يطرح جاذبية الأدب للفلسفة الحديث بنفس مستوى جاذبية العلم للفلسفة في القرن السادس عشر، النص الفلسفي يطرح مربعاتٍ نصية يمكنها أن تنمو وتزدهر من خلال القراءات التأويلية المتعددة.

لم يعد مبدأ "نفي النص" على اعتبار مرجعيته النظرية مجدياً؛ القراءات الثرية التي طرحت لنتاج كارل ماركس من قبل فلاسفة القرن الماضي لم تكن بهدف الدعاية للنظرية الماركسية، بل كانت قراءة داخل النص الماركسي لا النظرية الماركسية بمعناها الشمولي، إنها ليست عودةً لأشباح ماركس بالمعنى السياسي، وإنما لما يفتحه نص ماركس من كوى تبين مآزق الإنسان في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لهذا كانت قراءات:دريدا، هابرماس، جيل دلوز، لآثار ماركس أو أشباحه بداية لتحرير أي نص من مرجعيته المدرسية.

(جيل دلوز)


من هنا تمت إعادة قراءة "هيراقليطس" مجدداً منذ بعث نيتشه له، وهو الفيلسوف اليوناني القديم، تجدد أدوات القراءة للنصوص هو الذي جعل من فيلسوفٍ مثل هيراقليطس يكون أكثر حداثةً وتجدداً من نصوص فلاسفةٍ معاصرين، إن القراءة هي التي تخلق النص وتبعث فيه الحياة من جديد. لا يمكن نفي أي نص أو إهماله بناءً على انتمائه المدرسي لهذه المدرسة أو تلك. إن انتهاء وهج الفلسفات الوجودية التي لقيت رواجاً في القرن العشرين لا يعني موت نصوصها الفلسفية، لأن قراءة تلك النصوص يعيدها لفلك الفلسفة الحديثة، كما أحيا مفهوم "التقويض" لدى هيدغر فلسفات الحداثة البعدية. إن انتهاء وهج المدرسة لا يدمّر وهج النص ولا يلغيه، بل ولا ينقص منه.

لا نشكو من تراجع معدلات القراءة، وإنما من فقرٍ في المعنى الذاتي الذي يمكن أن تكسبه القراءة، إن القراءة مفهوم مترابط يتصل بالفرد تؤثر كل الأفكار والأمراض والمعتقدات والهواجس التي يحملها الإنسان على مستوى إجادته للقراءة، يمكن للقراءة أن تصنع من خلال الاحتكاك بالنص نصاً إضافياً، كما فعل جيل دلوز وهو الفيلسوف المهم حيث خصص أبحاثا عديدة لقراءة نصوص غيره، كما قرأ فوكو وكانط وديفيد هيوم بقيت تلك القراءات نصوصاً فلسفيةً إضافية تجاوز النصوص التي قرئت بالمعنى الذي تقدمه وتضيفه للحقل الفلسفي.

إن العلاقة بين الذات والنص حين تصل حد الفناء بالكتاب، والغرق بالمعنى، والدهشة بشهب التأويل فإنها تصنع وهجاً علمياً مختلفاً، فالقراءة أكبر من التمتمة بالمطابقة أو الصراخ بالنفي.